5 min (1403 words) Read
العالم في حاجة إلى مفهوم أوسع نطاقا للسياسة التجارية يراعي كيفية توزيع الدخل في الاقتصادات

في خضم النقاشات المحتدمة حول السياسة التجارية في واشنطن وخارجها، غالبًا ما تُصوَّر التعريفات الجمركية باعتبارها الأداة الرئيسية - أو حتى الوحيدة- التي تتدخل من خلالها الحكومات في التجارة العالمية. فقياسها أمر سهل، وتسييسها أمر أسهل، كما يسهل استخدامها في المفاوضات الثنائية.

ولكن التركيز على التعريفات الجمركية مُضلِّل، حيث يغفل الآليات الأساسية الأكثر أهمية التي تستعين بها البلدان في صياغة علاقاتها التجارية مع العالم. ونظرا لأن الاختلالات الداخلية بين الاستهلاك والإنتاج في بلد ما يجب أن تتسق دائما مع اختلالاته الخارجية، فإن أي عامل يؤثر على الاختلالات الداخلية يجب أن يؤثر أيضا على الاختلالات الخارجية، والعكس صحيح. التعريفات الجمركية ليست سوى أداة واحدة من بين أدوات عديدة يُمكن للحكومة استخدامها لتعديل الاختلالات الداخلية في بلد ما.

وكمعظم هذه الأدوات، تكمن آلية عمل التعريفات الجمركية في تحويل الدخل من المستهلكين إلى المنتجين. ولكن باعتبارها أداة منظورة، فإنها غالبا ما تكون من أكثر هذه الأدوات إثارةً للجدل السياسي. وعلى النقيض من ذلك، فإن الكثير من أقوى التدخلات التجارية في عالم اليوم لا يحدث في صورة تعريفات جمركية، بل كخيارات على مستوى السياسات لا تبدو أنها مرتبطة بالتجارة إطلاقًا. فقرارات المالية العامة، والهياكل التنظيمية، وسياسات العمل، والمعايير المؤسسية يمكن أن تؤثر جميعها على كيفية توزيع الدخل، وكيفية موازنة الاقتصادات بين الاستهلاك والإنتاج، وتنشأ عنها انعكاسات بعيدة المدى على التجارة العالمية.

ولفهم الأسباب وراء استئثار التعريفات الجمركية دون غيرها بهذا الاهتمام، ينبغي أن نأخذ في الاعتبار طبيعتها المنظورة. فالتعريفة الجمركية هي بند في مفاوضات تجارية يؤثر على سعر سلعة مستوردة. ومن السهل تحديدها، واستخدامها كسلاح، وإلغاؤها، وهي مرتبطة بالتجارة بشكل واضح للغاية. ولكن هذه البساطة نفسها التي تكسب التعريفات الجمركية أهميتها السياسية هي ما يجعلها أيضا مقياسا ضعيفا للسياسة التجارية ككل.

تحويل الدخل

التعريفة الجمركية، في جوهرها، هي ضريبة على الواردات. ومن خلال رفع أسعار السلع الأجنبية، تمنح التعريفات الجمركية ميزة سعرية للمنتجين المحليين. ومن شأن ذلك أن يفيد بعض القطاعات ويحافظ على الوظائف. ولكن هذه المنافع تأتي بتكلفة: حيث يدفع المستهلكون ثمنا أكبر للحصول على السلع والخدمات. ويتمثل التأثير الصافي في تحويل الدخل من الأسر إلى الشركات، وهذا التحويل هو ما يحد من الاستهلاك الكلي مقارنة بالإنتاج من خلال خفض نصيب الأسر من إجمالي الناتج المحلي.

وهذا التحول في الدخل من المستهلكين إلى المنتجين هو جوهر التدخل التجاري. فالنتيجة، سواء من خلال التعريفات الجمركية، أو الدعم الضريبي، أو قانون عمل يكبح الأجور، هي تغيير التوزيع الداخلي للدخل، الذي تنشأ عنه أيضا انعكاسات خارجية. ففي حالة فرض ضرائب على الاستهلاك وتقديم دعم على الإنتاج، سيرتفع صافي الصادرات على الأرجح. وعلى العكس، ففي حال أدت السياسات إلى تحويل الدخل من المنتجين إلى المستهلكين، سينخفض صافي الصادرات على الأرجح. ومن هذا المنطلق، فإن أي سياسة تؤثر على التوازن بين استهلاك الأسر وإجمالي الناتج ستؤثر أيضاً على التوازن بين الادخار المحلي والاستثمار المحلي، وبالتالي فهي سياسة تجارية بالفعل.

لننظر إلى سياسة العملة. فعندما يتدخل بلد ما في أسواق الصرف الأجنبي لتظل عملته دون قيمتها الحقيقية، فإنه يحقق الهدف ذاته المرجو من التعريفة الجمركية. فخفض قيمة العملة يؤدي إلى زيادة تكلفة الواردات وتراجع تكلفة الصادرات، وبالتالي فهو بمثابة دعم على الإنتاج وضريبة على الاستهلاك. وكما هو الحال مع التعريفات الجمركية، يؤدي ذلك إلى تحويل الدخل من المستوردين على أساس صافٍ (قطاع الأسر) إلى المصدرين على أساس صافٍ (قطاع السلع المتداولة)، ولكنه يحدث من خلال أسعار الصرف وليس صورة تعريفات جمركية.

ويمكن للكبح المالي أن يُحدث التأثير ذاته. ففي البلدان التي يركز فيها النظام المصرفي خدماته على جانب العرض من الاقتصاد، يشكل كبح أسعار الفائدة بالفعل ضريبة على دخل المدخرين على أساس صافٍ (قطاع الأسر) ودعم ائتماني للمقترضين على أساس صافٍ (قطاع الإنتاج). ومن خلال تحويل الدخل من القطاع الأول إلى الثاني، تنشأ اختلالات داخلية – على غرار ما يحدث نتيجة التعريفة الجمركية أو خفض العملة دون قيمتها الحقيقية - بين الاستهلاك والإنتاج. ويتجلى ذلك في ارتفاع صافي الصادرات.

كما أشار جون مينارد كينز في بريتون وودز عام ١٩٤٤، فإن قدرة الاقتصاد المتنوع على تحقيق فوائض تجارية مستمرة هي دليل كاف عادة على ممارسة تدخلات مُشوِّهة للتجارة.
الدعم الاستراتيجي

يمكن للسياسات الضريبية والتنظيمية أن تعمل بآلية مماثلة. فقد تقدم الحكومات دعمًا مباشرًا أو غير مباشر للقطاعات الاستراتيجية، بما في ذلك من خلال بناء بنية تحتية مصممة خصيصًا للتكتلات العنقودية في مجال التصنيع. وهذه التدابير قد لا تخالف القواعد الدولية للتدخل التجاري، ولكنها تحدث تغييرا في الحوافز النسبية داخل الاقتصاد على نحو مماثل لما تفعله الحمائية التقليدية. فمن خلال خفض تكلفة الإنتاج أو زيادة جاذبيته مقارنة بالاستهلاك، تحقق تلك التدابير الغاية ذاتها: تحولات داخلية ذات تبعات خارجية.

وحتى هياكل سوق العمل والمؤسسات الاجتماعية يمكن استخدامها كأدوات للتدخل التجاري. ففي الصين، على سبيل المثال، لطالما اُستخدم نظام "هوكو" - وهو نظام لتسجيل الأسر يحد من حقوق العمالة المهاجرة من الريف إلى المناطق الحضرية – في كبح الأجور وتقليص استهلاك الأسر. فرغم أن نظام "هوكو" مصمم أساسا لإدارة التوسع الحضري، فإنه يؤثر مباشرة على الميزان التجاري للصين من خلال الحد من نمو الطلب المحلي مقارنة بالعرض المحلي.

ويمكن ملاحظة آثار مماثلة على مستوى السياسات التي تُشجع التدهور البيئي (عبر زيادة ربحية الشركات على حساب تكاليف الرعاية الصحية)، أو تفرض قيودا على تنظيم العمالة، أو تكبح الحد الأدنى للأجور، أو تحد من القوة التفاوضية للعمال. فمن خلال كبح نمو الأجور والحد من الاستهلاك مقارنة بنمو الإنتاجية، تحدث هذه السياسات أنواع الاختلالات ذاتها الناجمة عن التعريفات الجمركية، ولكنها تفعل ذلك بهدوء أكبر.

ويُساعد هذا المنظور الأوسع نطاقا في تفسير السبب وراء تحقيق فوائض تجارية مستمرة في بعض البلدان رغم تدني تعريفاتها الجمركية نسبيا. فلطالما ركّزت هذه الاقتصادات على الإنتاج بدلا من الاستهلاك، سواء من خلال الهياكل المؤسسية، أو حوافز الادخار، أو السياسات الصناعية الموجهة نحو التصدير. والنتيجة واحدة: فإذا كان الطلب المحلي أقل من أن يستوعب الناتج القومي، سيتعين على هذه البلدان تصدير تكلفة ضعف الطلب المحلي من خلال تحقيق فوائض تجارية.

والفكرة هنا هي أن اختلالات الميزان التجاري لا ترتبط بما يحدث على الحدود فحسب، بل إنها نتاج لكيفية هيكلة الاقتصادات داخليا - أي كيفية توزيع الدخل، ومقدار إنفاق الأسر مقارنة بإنتاج الشركات، وكيفية موازنة الحكومات بين الطلبات المتنافسة للمنتجين والمستهلكين.

التدخل الضمني

حينما تنتهج الحكومات سياسات لدعم الاستثمار على حساب الاستهلاك، أو رأس المال على حساب العمالة، فإنها تتدخل ضمنيا في مسار التجارة - سواء بقصد أو بدون قصد. وكما تُطبّق بلدان الفائض سياسات محلية تولي الأولوية للمنتجين على حساب المستهلكين، فإن بلدان العجز التي تتعامل معها تولي في الواقع الأولوية للمستهلكين على حساب المنتجين، سواءً قررت ذلك أم لا.

وهكذا، فإن قصر التركيز على التعريفات الجمركية أمر مُضلِّل، حيث يصرف الانتباه عن الأسباب الأساسية لاختلال الميزان التجاري، وتنشأ عنه استجابات ذات نتائج عكسية. وكما أشار جون مينارد كينز في بريتون وودز عام 1944، فإن قدرة الاقتصاد المتنوع على تحقيق فوائض تجارية مستمرة هي دليل كاف عادة على ممارسة تدخلات مُشوِّهة للتجارة. ومن غير المهم على الإطلاق ما إذا كانت هذه التشوهات ناجمة عن تعريفات جمركية أم لا، فالتعريفات الجمركية في اقتصادات العجز قد يمكنها خفض اختلالات الميزان التجاري، وبالتالي قد تشجع في الواقع على تعزيز التجارة الحرة. 

وعوضا عن الاحتجاج على التعريفات الجمركية، يحتاج العالم إلى مفهوم أوسع نطاقا للسياسة التجارية، يتجاوز الجدل السطحي حول التعريفات الجمركية، وينظر إلى العمق في كيفية توزيع الاقتصادات للدخل. وإذا كانت الاختلالات التجارية ناتجة في نهاية المطاف عن خيارات داخلية تحدد من يحصل على ماذا، فإن إصلاحها لا يتطلب اتفاقيات ثنائية أو تحركات حمائية فحسب، بل تغييرا في كيفية هيكلة البلدان لاقتصاداتها وتوجيه القوة والموارد نحو الأطراف التي يساهم إنفاقها في تحقيق الطلب المستدام.

مايكل بيتيس باحث أول في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ومحاضر بجامعة بكين.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.