ظلت هذه المجلة على مدار 60 عاما تمثل نافذة تطل على صندوق النقد الدولي والاقتصاد العالمي المتغير
إنه عام 1964، وفرقة البيتلز الموسيقية في أوج شهرتها، والكونغرس الأمريكي يقر قانون الحقوق المدنية، والحكم يصدر على نيلسون مانديلا بالسجن مدى الحياة في جنوب إفريقيا، ونجمة هوليوود أودري هيبورن تقوم بدور البطولة في فيلم "سيدتي الجميلة"، وفي واشنطن، في ركن هادئ من شارع 19، نورث ويست، يعلن مولد مجلة جديدة.
ربما لم يكن انطلاق مجلة "التمويل والتنمية" في شهر يونيو من عام 1964 بضخامة الأحداث التي شهدها ذلك العام، لكنه كان إيذانا بفتح نافذة فريدة أمام الجمهور العام لإلقاء نظرة على أنشطة - وفكر - صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وبمرور الزمن، سيتيح للبنك والصندوق فرصة للاطلاع على رؤية الأطراف الخارجية حول مجموعة متنوعة من الموضوعات الاقتصادية والمالية ذات الأهمية لعملهما.
وعندما اقترح فرانك ساوثارد جونيور، نائب مدير عام الصندوق، إصدار "مجلة دورية أقل تركيزا على الجوانب الفنية" للوصول إلى القراء من المسؤولين الحكوميين، والمصرفيين، والصحفيين، والطلبة كان يتصور إصدار منتج للصندوق فقط (وهو ما تحقق لاحقا، عندما انسحب البنك الدولي من المجلة في تسعينات القرن الماضي). غير أنه رحب باقتراح جورج وود، رئيس البنك الدولي، بإصدار مطبوعة مشتركة، مما أتاح للمجلة نطاقا أوسع من الموضوعات ووسع قابلية جذبها للقراء في العالم النامي.
البدايات
الأعداد الأولى من مجلة The Fund and Bank Review: Finance & Development (استعراض أنشطة الصندوق والبنك: التمويل والتنمية) مهدت الطريق لبقية ذلك العقد، إذ ترسخت مهمتها الأساسية في توفير المعلومات للقارئ العام عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وتضمنت مقالات عن نشأة المؤسستين، وهيكلهما المالي، وعملياتهما. وقدمت بعض المقالات الأقصر تفسيرا للغة التخصصية المستخدمة في الصندوق - مثل اتفاقات الاستعداد الائتماني، وعجز ميزان المدفوعات، وممارسات تعدد أسعار الصرف - وقدمت عرضا تفصيليا للمعاملات والأنشطة المالية في المؤسستين.
ولم يكن إصدار مجلة "التمويل والتنمية" بمعزل عن العالم. فخلال ستينات القرن الماضي، كان العالم النامي، في خضم انتهاء الاستعمار، يتطلع إلى اللحاق بركب البلدان الأكثر ثراء. وعلى مستوى البنك الدولي، بعد ظهور المنطق التنموي لهذا الزمن - وهو التصنيع يؤدي إلى النمو؛ والنمو يساعد الفقراء - انصب التركيز على الإقراض لتمويل المشروعات في مجالات البنية التحتية والصناعة. ونشرت مجلة التمويل والتنمية العديد من المقالات التي تقدم لمحة عن طبيعة المشروعات التي يمولها البنك الدولي وتفسر الجوانب العملية للإقراض من أجل التنمية.
ومنذ صدور أول غلاف يحمل رسما توضيحيا في مارس 1968، يبرز صورة لسكان القرى في كينيا حول صنبور مياه جديد بتمويل من البنك الدولي، عرضت مجلة التمويل والتنمية صورا لمشروعات ناجحة ترمز إلى أسلوب المعيشة الحديث والرفاهية. وأبرز غلاف عدد سبتمبر 1968 والمقال المقترن به كيف كانت سدود الري الجديدة تساعد في تحويل الصحراء المكسيكية إلى أراض زراعية خصبة. وقطع ذلك المقال وعدا بأن الزائرين لحضور فعاليات الألعاب الأولمبية لعام 1968 يمكنهم أن يتوقعوا تناول العشاء من منتجات "يزرعها المزارعون في هذه المساحة المزدهرة حديثا". وقدم مقال آخر وصفا للطريق السريع الغربي في هندوراس - الممول بأول قرض من المؤسسة الدولية للتنمية - على أنه " إبرة الحقن التي يحقن بها الريف بلقاح الحياة الحديثة".
ومع ذلك، بنهاية ذلك العقد، كان نموذج التنمية المدفوعة بالتصنيع يواجه التحديات. فقد أكد غانر ميردال، الحائز على جائزة نوبل في كتابه الصادر عام 1968 بعنوان "Asian Drama: An Inquiry into the Poverty of Nations" (الدراما الآسيوية: بحث في فقر الأمم) أن "التنمية ليست عملية ميكانيكية يتم من خلالها الجمع بين مخزون رأس المال والمهارات البشرية والمعرفة التكنولوجية والحيل الفنية وإنما هي عبارة عن تغير مؤسسي، للتوجهات والأنماط السلوكية، في كل العناصر غير الملموسة التي تميز المجتمع البشري عن حقل من الجزيئات أو مستعمرة للنمل". وبالنسبة للاقتصاديين في البنك الدولي كان ذلك بمثابة خروج سافر عن الأعراف الاقتصادية، وفي شهر يونيو 1969 نشرت مجلة التمويل والتنمية ردا مطولا - لا يشكك بدرجة كبيرة في نظرية ميردال بقدر ما ينتقد قصوره في تقديم الحلول العملية.
ومع ذلك، بحلول العام التالي، دعا رئيس البنك الدولي، روبرت ماكنمارا، إلى إيجاد مؤشرات للتنمية "تتجاوز نطاق قياس النمو بالناتج الإجمالي وتوفير معايير عملية للتغير في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية الأخرى لعملية التحديث".
وكان ذلك العام بمثابة نقطة الذروة أيضا في نظام بريتون وودز: ففي مقال نُشِر عام 1966 تم الإعلان بفخر عن مرور 20 عاما من اتباع أسعار الصرف الثابتة. ولكن هذا النظام كان خاضعا للضغوط. وقد تناولت عدة مقالات في أواخر الستينات مناقشة المشكلات المتشابكة بين ميزان المدفوعات الأمريكي والسيولة العالمية حتى استحدث صندوق النقد الدولي أصلا احتياطيا صوريا، وهو حقوق السحب الخاصة، أبرزه بوضوح غلاف عدد ديسمبر 1969. وبالنسبة للاقتصادات النامية، التي كانت تأمل في إيجاد رابط بين توزيع مخصصات حقوق السحب الخاصة وتمويل التنمية، لم يكن بوسع الصندوق سوى تكرار وصفته التقليدية على مستوى السياسات - التي تكرر تناولها في عدة مقالات بمجلة التمويل والتنمية - بأن الاستقرار النقدي واستقرار أسعار الصرف شرطان أساسيان للتنمية الاقتصادية.
ومع اقتراب عقد الستينات من نهايته اقترب كذلك نظام بريتون وودز من نهايته، إذ سينهار بعد سنوات قليلة فقط. ومع ذلك، تكللت مجلة التمويل والتنمية بالنجاح، وخلال الفترة بين عامي 1964 و1968 ارتفع معدل توزيع المجلة باللغات الثلاث الأصلية، الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، من 20 ألف نسخة إلى 85 ألف نسخة. ورسخت المجلة أقدامها كوسيط جاد للتواصل بشأن أنشطة البنك والصندوق. وبدأ المحررون، رويدا في بادئ الأمر، ولكن بثقة متزايدة، يختبرون استعمال الألوان والرسومات عن طريق استخدام صور وخرائط ورسوم بيانية ورسوم توضيحية أكبر وبصفة متكررة.
السبعينات المضطربة
كانت السبعينات من القرن الماضي بمثابة عقد من الموجات العاصفة - تخللها انهيار نظام بريتون وودز، وصدمات أسعار النفط الهائلة، وهجمات الإرهاب الدولي. لكنها كانت أيضا فترة تخللها العديد من التجارب. فالتعديل الثاني لاتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي في عام 1978 أتاح للبلدان الأعضاء اختيار نظام سعر الصرف الذي تعمل به - إما الثابت أو المعوم. والأهم من ذلك، وفقا لما أوضحه المستشار الاقتصادي للصندوق في عدد يونيو 1976 من مجلة التمويل والتنمية، أن هذا التعديل كان يمثل ثورة في الفكر الاقتصادي حول استقرار النظام النقدي الدولي.
وكان الاقتصاد، في ظل نظام بريتون وودز، يستند إلى احتفاظ البلدان بأسعار صرف ثابتة مقابل الدولار. وبعد التعديل الثاني لاتفاقية الصندوق، كان من المفترض أن توجه البلدان سياساتها النقدية والمالية نحو تحقيق الاستقرار الداخلي، فيتحقق لها استقرار أسعار الصرف من اتباع سياسات اقتصادية سليمة، بغض النظر عن نظام سعر الصرف الذي يقع عليه الاختيار. ومن ثم، سوف يتسع نطاق أنشطة الصندوق الرقابية في المستقبل بحيث لا تقتصر على الاستقرار الخارجي فحسب، بل تشمل السياسات الداخلية والاستقرار الداخلي أيضا. وسيفتح ذلك المجال أمام توسيع نطاق رقابة الصندوق، التي تشمل في الوقت الراهن تلك الموضوعات المتنوعة مثل المساواة بين الجنسين، والحوكمة، والتغير المناخي.
وكان الطريق إلى تنفيذ التعديل الثاني لاتفاقية تأسيس الصندوق مليئا بالصعوبات، وقد حرصت مجلة التمويل والتنمية في تلك الفترة على إطلاع القراء على الجهود المبذولة لإصلاح النظام النقدي الدولي، والنقاشات الدائرة حول نظام سعر الصرف الثابت مقابل النظام المعوم، والاختلالات التي سببتها صدمات أسعار النفط، بالإضافة إلى الجوانب العملية في تنفيذ المواد المعدلة في اتفاقية تأسيس الصندوق. غير أن الاقتصادات النامية طالبت بشدة مرة أخرى بإيجاد رابطة بين توزيع حقوق السحب الخاصة والتنمية لكنها قوبلت بالرفض مرة أخرى. وبدلا من ذلك، استحدث صندوق النقد الدولي "تسهيل الصندوق الممدد"، الذي أتاح الدخول في اتفاقات (وفترات سداد) أطول أجلا مقارنة باتفاقات الاستعداد الائتماني التقليدية، كما اقتحم لأول مرة مجال الإقراض الميسر من خلال إنشاء صندوق استئماني جديد (أولته مجلة التمويل والتنمية أهمية بالغة في عدد ديسمبر 1976). وكانت صدمة أسعار النفط قوية حتى أن الصندوق اضطر في سبيل تلبية مطالب أعضائه أن يقوم بتكملة موارده المستمدة من حصص العضوية بأموال اقترضها من البلدان المصدرة للنفط - وهو في واقع الأمر، إعادة تدوير البترودولار. وفي شهر يونيو 1975 أضافت مجلة التمويل والتنمية نسختها باللغة العربية.
وكان البنك الدولي يمر كذلك بتطورات ثورية. وقد كثفت مجلة التمويل والتنمية تغطيتها للاجتماعات السنوية المنعقدة في نيروبي في عام 1973 التي شدد خلالها رئيس البنك الدولي، ماكنمارا، على الحاجة للتعامل مع الفقر المدقع بصورة مباشرة. وكان البنك (ومجتمع التنمية الأوسع نطاقا) قد بدأ يدرك أن نمو إجمالي الناتج القومي "لا ينتقل غالبا إلى المستويات الأدنى من السكان". ولكن الحل لم يكن توزيع المعونات: فقد اكتشف ماكنمارا أن الحل الدائم الوحيد هو زيادة إنتاجية الفقراء (ومعظمهم في المناطق الريفية). وبحثت مجلة التمويل والتنمية في أنواع مشروعات البنك الدولي، ونشرت مقالات تشير إلى أنها لم تعد "المشروعات الهندسية الضخمة التي شهدتها أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات" لكنها عمليات متطورة ومتشابكة ومتعددة الأوجه. وعلى مدار السبعينات، استعرضت مجلة التمويل والتنمية مبادرات البنك الدولي لمساعدة صغار المزارعين في الحصول على الائتمان والبذور والسماد، يكملها توسيع نطاق تقديم الخدمات التعليمية والرعاية الصحية وخدمات الري والنقل العام.
وبالعودة إلى مكاتب التحرير في مجلة التمويل والتنمية، اختبر المحررون الاستعانة بخطوط وأنماط طباعية غير تقليدية وأكثر حداثة، على النحو المشاهد في عدد مارس 1973. والأهم من ذلك، أنهم بدأوا يبحثون في إمكانية تناول موضوعات جديدة غير تقليدية. ففي مقال نشرته مجلة التمويل والتنمية في عام 1969 تم تسليط الضوء لأول مرة على الطقس باعتباره "متغيرا رئيسيا في التنمية الاقتصادية لم تكن المؤسسات الاقتصادية والمالية حتى ذلك الوقت توليه اهتماما يذكر". وفي ديسمبر 1971، كتبت مارغريت دي فراي - رئيسة قسم رائدة في الصندوق’ مقالا قويا جديرا بالاهتمام حول دور المرأة في التنمية الاقتصادية. وأبرزت المجلة كذلك المنافع التي تعود على العمالة الوافدة في أوروبا، مشيرة إلى المزايا التي تعود على العمالة المهاجرة والبلدان المضيفة على السواء، في الوقت الذي كانت فيه البلدان المضيفة قد بدأت تعاني من التأثير الاجتماعي والسياسي للهجرة الوافدة.
الثمانينات: العقد الضائع
على مستوى الاقتصادات المتقدمة، اشتهرت سنوات مارغريت تاتشر-رونالد ريغان بتجاوزات وول ستريت. ولكن بالنسبة لجانب كبير من العالم النامي كانت الثمانينات بمثابة عقد ضائع.
ففي نهاية السبعينات قام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بتشديد سياسته النقدية بقوة لكبح جماح التضخم المرتفع في الولايات المتحدة. وأدى ارتفاع أسعار الفائدة العالمية إلى وضع نهاية مفاجئة لتيسيرات إقراض النقود التي شهدها العقد السابق مما أدخل الاقتصادات النامية المدينة في نوبة من الهبوط الحاد المفاجئ. وفي صندوق النقد الدولي كانت كلمة السر هي "الشرطية". فلم يكن الوفاء بشروط معينة على مستوى السياسات العامل الأساسي للحصول على موارد الصندوق فحسب - وهو ما أوضحه غلاف عدد مارس 1981 من مجلة التمويل والتنمية - بل إنه ضروري أيضا لإجراء التصحيحات الناجحة، بحيث لا تؤدي القروض الجديدة ببساطة إلى تراكم المزيد من الديون.
وعلى مستوى البنك الدولي، كان هناك إدراك متزايد بأن مشروعات الاستثمار، بغض النظر عن معدل عائدها الداخلي، لم يكن ليتحقق لها الازدهار مطلقا إذا كانت البيئة الاقتصادية الكلية في حالة فوضى. وكان الحل هو إيجاد نوع جديد من الإقراض، أي القروض للتصحيح الهيكلي التي توفر الدعم للميزانية من أجل الإصلاحات الاقتصادية. وشددت برامج البنك والصندوق على السواء على الحاجة إلى استعادة توازن المركزين الداخلي والخارجي - على جانب الطلب، بخفض مستويات عجز الميزانية وفرض الانضباط النقدي، وعلى جانب العرض، من خلال خفض سعر العملة، والخصخصة، والتحرير الاقتصادي.
ولكن الاقتصادات النامية أعربت عن استيائها إزاء هذا التوجه الجديد. وأعرب الناقدون عن شجبهم لهذه التدابير القاسية والشرطية الصارمة، وهو ما زعموا أنه أدى إلى تفاقم الظروف الاقتصادية الشاقة بغير داع، وخاصة بالنسبة للفقراء. وفي هذا المجال، ساهمت مجلة التمويل والتنمية بدور بالغ الأهمية في إيضاح أن التصحيح المالي المنظم وفي الوقت المناسب، رغم ما يكتنفه من مشاق قصيرة الأجل، سيؤدي إلى مكاسب على المدى الطويل، بما في ذلك ارتفاع النمو وتحسن مستويات المعيشة وتوزيع الدخل بصورة أفضل.
وعززت مقالات أخرى صورة الإصلاحات الموجهة نحو السوق، وخاصة تحرير التجارة بدلا من الحمائية وإحلال الواردات. وتم استعراض حالة اقتصادات شرق آسيا لنجاح التدابير التصحيحية التي نفذتها والإشادة باعتمادها سياسة الانفتاح التجاري، وهو - وفقا لما ذكره مؤلفو المقالات في مجلة التمويل والتنمية - الذي أدى إلى سرعة التعافي والنمو (رغم أن هذه البلدان، في واقع الأمر، كانت تتميز أيضا بكثافة التدخل الحكومي). وبدأت مجلة التمويل والتنمية كذلك تلتفت إلى الصين، التي كانت قد بادرت مؤخرا بتنفيذ إصلاحات موجهة إلى السوق؛ وبدأت المجلة في يونيو 1983 في النشر باللغة الصينية.
ومع استمرار أزمة المديونية لفترة مطولة وبدء الشعور بإرهاق التصحيح، تزايد وضوح الصورة بأن تأثير التصحيح الحاد كان أكبر كثيرا على الفقراء. وكان من الضروري أن تعزز البرامج من جهودها لحماية الفئات الأكثر ضعفا، حتى تتحقق لها الاستدامة السياسية. وأصبح بوسع قراء مجلة التمويل والتنمية أن يتتبعوا عبر صفحاتها تطور استراتيجية الديون في المجتمع الدولي، أي التأكيد المبدئي على أهمية التصحيح؛ و"مبادرة بيكر" لعام 1985 المستندة إلى حالة البلدان التي "تخرج من" أوضاع مديونيتها؛ وأخيرا القبول، بموجب مشروع "بريدي" لعام 1989 ونادي باريس (وفق شروط تورونتو)، بأن تخفيف أعباء الديون - من الدائنين من السوق والدائنين الثنائيين الرسميين على حد سواء - هو وحده القادر على حل الأزمة.
وغطت مجلة التمويل والتنمية كذلك مشاركة البنك الدولي المتزايدة في الجهود المتعلقة بالشواغل البيئية، والتي بدأت بإنشاء وحدة صغيرة في 1970 وحظيت بزخم إضافي خلال فترة رئاسة السيد باربر كونابل للبنك الدولي (1986 - 1991). وإزاء خلفية الانتقادات العامة لتأثير بعض مشروعات البنك الدولي على البيئة، بدأت مجلة التمويل والتنمية في نشر مقالات عن تحول توجهات البنك الدولي نحو اعتبار الحفاظ على البيئة جزءا من التنمية المستدامة.
وفتحت مجلة التمويل والتنمية الباب أمام النشر لمؤلفين من خارج المؤسستين، بدءا بمقال كتبه "نيكولاس كالدور" في يونيو 1983. وقد تم تعريف مقالات المؤلفين الضيوف بمنتهى الوضوح حتى لا يكون هناك لبس حول احتمال تمثيلها للرؤية المؤسسية، وكان مقال "كالدور" - الذي يشكك في العُرف السائد في الصندوق بشأن خفض أسعار العملة - قد نُشر مصحوبا بمقال يرد عليه كتبه رئيس تحرير مجلة التمويل والتنمية. ومع ذلك، ساهمت تلك المقالات في طرح عنصر النقاش على صفحات المجلة، فمهدت الطريق لتصبح مجلة التمويل والتنمية ذات طابع أقل تركيزا على نشر آراء البنك والصندوق وأكثر توجها نحو التحول إلى منبر للحوار.
التسعينات: التحوّل
مع استخدام لوحة فنية على الغلاف تعيد إلى الأذهان صورة الملصقات الدعائية السوفيتية في ثلاثينات القرن الماضي، استعرض عدد مارس 1990 من مجلة التمويل والتنمية أكبر قصة شغلت الاهتمام في ذلك العقد، أي سقوط النظام الشيوعي والانتصار الظاهري للنظام الليبرالي. وكان العمل جاريا بالفعل في البنك والصندوق - بالتعاون مع منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير الوليد - من أجل إعداد "دراسة عن الاقتصاد السوفيتي"، خلُصت (كما أوضح مقال في مجلة التمويل والتنمية في 1991) إلى أن الإصلاحات المطلوبة كانت مترابطة: بمعنى أن التدرج لن ينجح؛ وضرورة "العلاج بالصدمة". وبحثت أعداد لاحقة من مجلة التمويل والتنمية في مختلف جوانب التحول - أي الضبط المالي، والإصلاح النقدي، والخصخصة، وإعادة توجيه الصناعات، وحوكمة الشركات - مما أتاح فرصة من حين لآخر للتعبير عن آراء من كانوا يطالبون باتباع منهج "صدمة أقل، وعلاج أكثر".
وبعيدا عن اقتصادات التحول، كانت الاقتصادات النامية والأسواق الصاعدة تتحول أيضا، فقبلت معظم أفكار النظام الليبرالي والزخم الأوسع نحو تبنيه - مع رفض الجانب النظري - فيما أُطلق عليه توافق آراء واشنطن. ومع ذلك، وفقا لما أكده تقرير "معجزة شرق آسيا" الذي أعده البنك الدولي - وأبرزه غلاف عدد مارس 1994 من مجلة التمويل والتنمية، فإن تدخل الدولة قد يكون عاملا بناء، شريطة ضمان "سلامة الحوكمة".
وجاءت أزمات الأسواق الصاعدة في التسعينات لتختبر قوة التفاؤل بشأن رأسمالية السوق غير الخاضعة للسيطرة. وفي إطار جهود التحرير الاقتصادي، قام العديد من اقتصادات الأسواق الصاعدة بإلغاء قيود رأس المال، فجذبت بذلك تدفقات وافدة كبيرة. غير أنه قبل أن يمضي وقت طويل، أدى خفض سعر العملة عام 1994 في المكسيك - وتلتها بعد فترة قصيرة تايلند وكوريا وإندونيسيا وروسيا والبرازيل والأرجنتين وأوروجواي وتركيا - إلى ظهور عواقب وخيمة تمثلت في انعكاسات حادة في مسار التدفقات الرأسمالية. وبينما كانت جذور أزمات الحساب الرأسمالي ذات خصوصية قُطْرية، أدت حالات عدم اتساق الميزانية العمومية في كل حالة - مثل القروض المقومة بالدولار والمفترض سدادها من أصول تولِّد إيرادات بالعملة المحلية - إلى تعريض الاقتصادات لأحداث مزعزعة للاستقرار، سواء داخليا أو خارجيا، واقتصاديا أو سياسيا.
ومع الكشف لأول مرة عن الجانب المظلم للعولمة المالية عند وقوع الأزمة الآسيوية في 1997-1998 تناول عدد يونيو 1998 من مجلة التمويل والتنمية عرضا مفصلا لتلك الأزمة والدروس المستخلصة منها فكانت بداية العديد من إصلاحات صندوق النقد الدولي. وبصورة أعم، حفزت أزمات الأسواق الصاعدة اتخاذ مختلف المبادرات (مثل المعايير والمواثيق، وبرنامج تقييم القطاع المالي، ونظم الإنذار المبكر) بهدف تقوية البنيان المالي الدولي.
وبينما يمكن أن تكون اقتصادات التحول والأسواق الصاعدة قد استحوذت على العناوين الرئيسية في مجلة التمويل والتنمية، فإن البلدان منخفضة الدخل لم تكن أقل أهمية. وأكد الصندوق على مدار فترة طويلة أن الاستقرار الاقتصادي الكلي ضروري للنمو، والنمو ضروري للحد من الفقر. وجاءت القفزة الفكرية الكبيرة - التي عبر عنها العدد الخاص من مجلة التمويل والتنمية تحت عنوان "كيف يمكن أن نساعد الفقراء" (ديسمبر 2000) - بحيث تم الاعتراف بأن "ضروري" لا تعني "كاف": أي أن الحد من الفقر ينبغي أن يكون هدفا في حد ذاته، إلى جانب النمو. وبالتالي، تم تحويل تسهيل الصندوق الشهير المعروف باسم "التسهيل التمويلي المعزز للتصحيح الهيكلي" إلى "تسهيل النمو والحد من الفقر". ويضطلع حاليا المسؤولون الحكوميون والمجتمع الدولي بصياغة استراتيجيات الحد من الفقر الخاصة بهم في إطار عملية تشاركية، معززين بذلك المسؤولية الوطنية عن البرنامج. واعترافا بجهود الإصلاح التي تبذلها البلدان، وافق الصندوق والبنك كذلك على تخفيف أعباء الديون في إطار "المبادرة المعنية بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون" (التي تمت تكملتها في أواسط العقد الأول من الألفينات بمبادرة أكثر طموحا وهي "المبادرة متعددة الأطراف المعنية بتخفيف الديون").
كذلك طرأ على مجلة التمويل والتنمية تغييرات كبيرة. فبعد فترة قصيرة من تولي جيمس وولفنسون رئاسة البنك الدولي في 1995، انسحب البنك من الشراكة في مجلة التمويل والتنمية. ولكن الصندوق أدرك قيمة المجلة وقرر تمويلها بمفرده. ورغم هذا التحول، فإن المشتركين في المجلة الذين يتجاوز عددهم 110 ألف مشترك لم يلمسوا سوى تغيير طفيف في تغطية الموضوعات. وكان الأهم من ذلك هو التركيز على التواصل البصري، بالاستعانة بأغلفة جذابة وطباعة رباعية الألوان، إلى جانب زيادة الاستعانة بالآراء الخارجية -وحتى الناقدة منها. وفي مارس 1996، بدأت مجلة التمويل والتنمية كذلك تعزيز إصداراتها المطبوعة بإضافة محتوى رقمي.
الدخول في الألفية الجديدة
على مدار السنوات القليلة التالية تألقت مجلة التمويل والتنمية في صيغتها الحديثة. ومع بدء عصر زيادة الشفافية ونشر وثائق الصندوق، انخفضت الحاجة لممارسة المجلة دور الناطق باسم الصندوق. وأصبحت بدلا من ذلك منبرا يمكن أن تُطرح فيه الموضوعات ذات الأهمية للبنك والصندوق لكي يناقشها كبار الخبراء في العالم. وأصبحت أعداد المجلة كذلك أكثر توجها نحو المجالات المواضيعية.
وفي أوائل الألفينات أيضا ظهرت الأسواق الصاعدة على الساحة العالمية. وتولت الاقتصادات الآسيوية قيادة تلك المجموعة: حيث تعافت بلدان الأزمة، واستيقظ العملاقان النائمان - أي الصين والهند. لكن الأمر لم يقتصر على آسيا وحدها: فقد تحسنت مستويات الأداء والتوقعات بدرجة كبيرة في أمريكا اللاتينية وحتى في إفريقيا. وبدأت الأسواق الصاعدة الرئيسية، التي تمثل حاليا حصة متزايدة من الناتج العالمي لكنها لا تحوز حتى الآن سوى أقلية من حصص عضوية الصندوق، في المطالبة بمقعد أكبر على الطاولة.
ولكن الانتعاش في شرق آسيا بقيادة الصادرات لم يخل من العيوب. فالإنجازات الكبيرة التي أحرزتها الأسواق الصاعدة - وخاصة الصين، التي أصبحت إحدى قلاع الصناعة التحويلية والتصدير بعد انضمامها في عام 2001 إلى منظمة التجارة العالمية - وشقت طريقها في القطاعات الصناعية بالاقتصادات المتقدمة أشعلت موجة من ردود الأفعال الحمائية. وحتى في ظل توقف جولة مفاوضات الدوحة لتحرير التجارة، استمرت مؤسستا بريتون وودز في مناصرة التجارة والعولمة: كل البلدان بإمكانها تحسين مصيرها عن طريق "النهوض بالتجارة" (التمويل والتنمية، سبتمبر 2002). وبالنسبة للبلدان الأفقر، ظلت الوصفة دون تغيير وهي أن تحرير التجارة - بنفس قدر زيادة المعونة - هو السبيل لإعطاء دفعة للنمو والقضاء على الفقر. وفي الوقت ذاته، تم استبعاد مخاوف العمال في الاقتصادات المتقدمة إزاء فقدان الوظائف وذلك على أساس أن التجارة تخلق عددا كافيا من الفائزين يمكنه تعويض عدد الخاسرين.
وعلى مستوى الاقتصاد الكلي، انعكس صعود نجم آسيا في وقوع "اختلالات عالمية" - لا سيما الفائض في الصين والعجز في الولايات المتحدة، تسببت في حدوث احتكاكات بينهما على مستوى التجارة وسعر الصرف. وكانت المخاوف النظامية - التي حفزت الصندوق على عقد أولى مشاوراته متعددة الأطراف في عام 2006 - متمثلة في احتمال وصول التزامات الولايات المتحدة المتراكمة إلى نقطة حرجة، وأن يفقد المستثمرون الثقة ويتخلصون من حيازاتهم من الدولارات، مما يعجل بوقوع أزمة عالمية. وفي واقع الأمر، لم تكن تلك الاختلالات سوى أحد الأعراض، وكانت جذور أزمة 2008 أعمق من ذلك.
فمع حلول منتصف العقد الأول من الألفينات، كان الاقتصاد العالمي يشهد حالة من الازدهار، لكنها لم تكن سوى نتيجة لفقاعة ثلاثية الأبعاد:
- استمرار الوفورات الفائضة والإنتاج الزائد في آسيا كان متوقفا على استمرار عجز الحساب الجاري الضخم في الولايات المتحدة، التي أصبحت مستهلك الملاذ الأخير.
- ركود الأجور الحقيقية وتراجع دخل العمل في الولايات المتحدة - لأسباب منها انتقال الوظائف في الصناعة التحويلية إلى الأسواق الصاعدة - جعلا الحفاظ على مستوى استهلاك الطبقة المتوسطة متوقفا على تزايد مبالغ الائتمان الاستهلاكي (غالبا في هيئة مسحوبات من حصص ملكية المساكن ذات الأسعار المتصاعدة).
- وفي منطقة اليورو، كانت هناك فقاعة مماثلة افترضت استمرار الفوائض في شمال أوروبا والعجوزات في جنوب أوروبا.
وتحققت هذه العوامل الثلاثة - بل تفاقمت - جراء التجاوزات في القطاع المالي التي تزايدت في ظل ضعف الإجراءات التنظيمية. وبينما استعرضت مجلة التمويل والتنمية بعض هذه العوامل، فقد تعذر عليها، وعلى معظم المراقبين الآخرين، ربط نقاط المعلومات ببعضها البعض وإدراك حقيقة الصورة الكبيرة بأنه في حالة انفجار تلك الفقاعات سيتعرض الاقتصاد العالمي إلى أسوأ أزمة يشهدها منذ "الكساد الكبير".
أزمة وتعاف
حتى من قبل أن يتسبب إفلاس بنك الاستثمار الأمريكي "ليمان براذرز" في إثارة حالة الذعر المالي العالمي، كانت مجلة التمويل والتنمية قد أشارت في عدد يونيو 2008 إلى سندات الدين المضمونة برهن عقاري التي اتسمت بالغموض والتعقيد، واقترانها بالزيادة المفرطة في الرفع المالي والإخفاقات التنظيمية، باعتبارها مصدر المشكلات المالية في الولايات المتحدة. وقدمت مجلة التمويل والتنمية في عدد ديسمبر 2008 تغطية واسعة لحالة فشل بنك ليمان براذرز وما استتبعها من انتشار الأزمة متكاملة الأركان إلى بقية العالم.
وعلى مدار السنة التالية قدمت المجلة عرضا تفصيليا لاستجابة صندوق النقد الدولي للأزمة: الإصلاح الشامل لمجموعة قدرتها على الفحص الإقراضية لجعلها أكثر مرونة واستجابة لاحتياجات البلدان؛ وتحسين أعمال الرقابة لزيادة القدرة على توقع الأزمات ومراعاة تداعياتها؛ والاضطلاع، بالتعاون مع مجلس الاستقرار المالي، بتعزيز إشرافه على النظام المالي العالمي. وقدم الصندوق كذلك دعما إضافيا للبلدان منخفضة الدخل وأعاد تنشيط حقوق السحب الخاصة - في أول توزيع للمخصصات منذ السبعينات - لإعطاء دفعة للاقتصاد العالمي عن طريق ضخ مباشر للسيولة غير المشروطة.
ومع اندلاع الأزمة، أطلق المدير العام دومينيك ستراوس-كان دعوته الشهيرة لتقديم دفعة تحفيز مالي طارئة. وأبدت بلدان العالم اهتمامها بهذه الدعوة، وفي طليعتها بلدان آسيا. وكان التوسع الهائل في الإنفاق من المالية العامة في الصين على وجه الخصوص بمثابة القاطرة لبقية الاقتصاد العالمي. وضخت البنوك المركزية الرئيسية السيولة الطارئة في أسواقها، وأنشأت خطوط تبادل العملات عبر الحدود، وشاركت في عمليات التيسير الكمي. وكانت هذه الإجراءات ضرورية لتجنب حدوث انهيار مفاجئ في الاقتصاد العالمي، وإن كانت قد أسفرت أيضا عن طفرات غير مرغوبة في تدفقات رؤوس الأموال إلى الأسواق الصاعدة.
وبحلول شهر ديسمبر 2009 كانت أسوأ فترات العاصفة قد مرت. ولكن الندوب التي خلفتها الأزمة كانت عميقة - البطالة الهيكلية، وعدم المساواة في توزيع الدخل، والحمائية، والمشاعر المناهضة للعولمة. وقد أصبحت هذه الندوب في الوقت الراهن محط تركيز مجلة التمويل والتنمية. وفي العدد الذي صدر بعنوان "وظائف على المحك" - مستلهما صورة غلافه من عمل الفنان دييغو ريفيرا في 1932 في تكريم العامل الأمريكي - بحثت مجلة التمويل والتنمية في كيفية تأثير الهجرة، والتعهيد لأطراف ثالثة، والتكنولوجيا في الآفاق المستقبلية للوظائف. وأشارت إلى المعضلة الأساسية التي يواجهها صناع السياسات، ألا وهي أن زيادة الانفتاح أمام العمالة المهاجرة، والتجارة، والتكنولوجيا جلبت معها منافع اقتصادية ولكنها كانت مصحوبة أيضا بتكاليف سياسية، نظرا لشعور الطبقة المتوسطة في المجتمع بأنها مهددة بالخطر. وبينما كانت إعادة تجهيز العمالة بالأدوات الجديدة وزيادة مستوياتهم التعليمية تشكلان جزءا من الحل، ذكرت مجلة التمويل والتنمية أنه "بالنسبة للعمال المسرحين الذين اقتربوا من نهاية حياتهم العملية، فإن إعادة التوزيع قد تكون حلا أكثر عملية من اكتساب المهارات الجديدة".
وقد بحث عدد سبتمبر 2011 من مجلة التمويل والتنمية في موضوع وثيق الصلة، وهو السخط العام من تزايد عدم المساواة في توزيع الدخل في الاقتصادات المتقدمة، الذي يرجع جزئيا إلى التصورات السائدة بأنه تم إنقاذ البنوك على حساب العمال. وكان الخطر يتمثل في أن الناس "سيتوقفون عن دعم التجارة المفتوحة واقتصاد الأسواق الحرة إذا أحسوا أنهم الخاسرون بينما تزداد مجموعة صغيرة من الفائزين ثراء على ثراء".
عالم مشحون ومتشرذم
بحلول عام 2016، بعد تصويت المملكة المتحدة للخروج من الاتحاد الأوروبي، لم يعد التشرذم خطرا محتملا بل أصبح واقعا ملموسا. وما أن أصبح التعافي العالمي يبدو وقد بلغ نقطة انعطاف، تعرض لانتكاسات من جراء تصاعد توجهات القومية والحمائية والشعبوية. وتحولت الشكوك التي أحاطت بالعولمة في السابق إلى حروب تجارية مفتوحة ورهاب الأجانب. وتحولت حركات مثل "احتلوا وول ستريت" إلى دعوات لدعم الساسة المناهضين للمؤسسة ورفض الخبرات في المجمل. ولم يقتصر الأمر على انحسار روح توافق الآراء والروح التعاونية التي كانت سائدة في الأيام الأولى من الأزمة، بل إنها تحولت إلى رغبة جامحة في الخروج عن الاتفاقات، وإعادة النظر في التحالفات، والانسحاب من العمل متعدد الأطراف.
وقد حرصت مجلت التمويل والتنمية على تشخيص حالة هذا الواقع الجديد. وفي عدد ديسمبر 2016 - الذي أبرز على غلافه صورة عامل يدوي جامد الملامح - بحثت المجلة في تفريغ الطبقة المتوسطة الأمريكية والأسباب الجذرية لمشاعر عدم الرضا التي استحوذت على الناخبين في الاقتصادات المتقدمة. ورغم أن العولمة كانت تبدو الجاني الواضح للعيان، أجرى عدد مارس 2017 تقييما لفرضية مختلفة، وهي الركود المزمن. ويظل التساؤل الرئيسي - كما أثارته مجلة التمويل والتنمية - هو إن كان ينبغي أن تستسلم الاقتصادات المتقدمة للنمو الضعيف أم أن السياسات بوسعها إحياء الإنتاجية. ولتلخيص حالة المزاج العام السائد في تلك الحقبة، فإن عدد ديسمبر 2018 من مجلة التمويل والتنمية، بعنوان "عصر انعدام الأمن"، أثار تساؤلا حول ما قد يتبقى من العقد الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين، عندما يشعر كبار السن بالقلق من احتمال أن يمتد بهم العمر لفترة أطول من عمر معاشاتهم التقاعدية ويشعر جيل الألفية بالانزعاج إزاء احتمالات عدم قدرتهم أصلا على كسب المعاشات التقاعدية.
وجاءت جائحة كوفيد-19 لتوجه الضربة التالية. ولجأ صندوق النقد الدولي إلى مجموعة خططه لمواجهة الأزمات، وسارع بتوفير التمويل الطارئ لعدد غير مسبوق من البلدان، كما أصدر عددا قياسيا من حقوق السحب الخاصة، وفي آخر المطاف قدم الصندوق الاستئماني للصلابة والاستدامة الذي تأسس عام 2022 حلا وسطا مبتكرا - لكنه جزئي - لشكوى الاقتصادات النامية الممتدة لفترة طويلة بأن توزيعات المخصصات تتم بالتناسب مع حصص العضوية بدلا من احتياجات البلدان للتمويل الهيكلي. ولكن ما كان يفترض فيه أن يجمع العالم في خندق واحد تسبب في تعاظم الانقسامات، مؤديا في نهاية المطاف إلى "الحمائية في توزيع اللقاحات".
وبعيدا عن تقييم أثر الجائحة المباشر، تعمقت مجلة التمويل والتنمية في دراسة انعكاسات الجائحة الأطول أجلا على الفرص الاقتصادية، وعدم المساواة، والتكنولوجيا، والصحة، والتطبيق العملي لسياسة المالية العامة. وحثت قراءها على اعتبار الجائحة فرصة لرأب التصدعات وإعادة بناء عالم أفضل (عدد سبتمبر 2020 من مجلة التمويل والتنمية).
وكان الغزو الروسي لأوكرانيا هو ما تسبب في وقوع مجموعة الصدمات التالية: اللاجئون، واضطرابات سلاسل الإمداد، ونقص الغذاء والطاقة، وارتفاع التضخم، واختلال الأسواق المالية. وعلى خلفية التنافس بين الولايات المتحدة والصين وانزلاق العالم الخطير إلى كتل اقتصادية متباينة، عززت الحرب من الشعور بضرورة اتخاذ البلدان موقفا داعما لطرف دون الآخر. ولمساعدة القراء على تفهم هذا المشهد العالمي بحثت مجلة التمويل والتنمية في تأثيره على صنع السياسات، والاقتصاد العالمي، وانعدام أمن الطاقة، وتفكك أواصر التجارة العالمية.
ما القادم بالنسبة للصندوق؟ بينما تشكل الصندوق في أتون الحرب وخرج إلى النور لدعم العمل متعدد الأطراف والتعاون الدولي، فإن مهمته في الوقت الحالي تتسم بالحيوية أكثر من أي وقت مضى. ولكن لتحقيق هذه المهمة بفعالية في عالم متزايد التعقيد وأكثر عرضة للصدمات، يتعين على موظفيه تحويل أنظارهم بعيدا عن الأرقام في لوحاتهم الجدولية والتصدي لدراسة قضايا خارج نطاق اختصاصهم التقليدي. وتضطلع مجلة التمويل والتنمية بدورها في هذا الشأن، وتخوض في طائفة من الموضوعات من الصحة، والخصائص الديمغرافية، وعدم المساواة إلى العملة الرقمية، والذكاء الاصطناعي. ويرصد عددها الأخير مدى أهمية كل ذلك لعلم الاقتصاد في حد ذاته.
سابقة لأوانها
كان الغرض في الأساس من مجلة التمويل والتنمية هو ضمان مواكبة قرائها للمستجدات في أنشطة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي؛ وهو ما تمكنت من تحقيقه بجدارة. ولكنها تطورت أيضا لتصبح منبرا حيويا للنقاش حول القضايا الاقتصادية بالغة الأهمية. وظلت مجلة التمويل والتنمية سباقة في تناول بعض الموضوعات، مثل البيئة، ودور المرأة، وصعود نجم الصين.
وفي شهر يونيو 2019، نشرت المجلة قصة من نسج الخيال يعود فيها الاقتصادي الراحل جون ماينارد كينز لزيارة الصندوق في الذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيسه حيث يبدي تعجبه من ثبات هذه المؤسسة - رغم التغيرات العديدة - على الهدف المتمثل في خدمة بلدانها الأعضاء. وعلى مدار الستين عاما الماضية، شهدت مجلة التمويل والتنمية أيضا العديد من التحولات وتعاملت معها، وذلك مع ثباتها على هدفها المتمثل في التواصل مع قرائها وتثقيفهم والترفيه عنهم.
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.