5 min (1403 words) Read
يقدم غاري سيدمان ملامح من حياة غويدو إمبينس، الاقتصادي بجامعة ستانفورد الذي يعيد تشكيل كيفية إثبات علاقة السببية في المجال البحثي على أرض الواقع.

حدثان في حياة غويدو إمبينس تعرض خلالهما لازدراء حاد. أولهما حين كان تلميذا مجتهدا في هولندا، حيث طُرد في سن صغيرة بشكل فظ من فصله الأول في مادة الاقتصاد لأسابيع بعد مشادة مع أحد المعلمين حول أحد الكتب. وبعد سنوات، أثناء مقابلة للالتحاق بهيئة التدريس في جامعة هارفارد، صوَّت أستاذ مساعد حاد الطباع - أصبح في نهاية المطاف أقرب أصدقاء إمبينس وزميله في الحصول على جائزة نوبل في الاقتصاد - ضد تعيينه في الجامعة. ويقول عنه إمبينس "كان يعتبر ما أقوم به من عمل على أطروحتي مملا". وبابتسامة خافتة، يتذكر جوشوا أنغريست ذلك الموقف بعد ثلاثة عقود واصفا الأطروحة بأنها "كانت جافة وتقنية للغاية".

وفي الحياة وفي علم الاقتصاد أيضا، هناك أمور يصعب على المرء إدراكها التام. وقد تشارك إمبينس جائزة نوبل في عام 2021 مع أنغريست، من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وديفيد كارد، أستاذ اقتصاديات العمل من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، تقديرا لعملهم الذي أحدث تحولا في كيفية فهم الاقتصاديين لعلاقة السببية. وتمكن إمبينس وأنغريست من استحداث أدوات للإجابة عن أسئلة "ماذا لو؟" الحياتية، ليس لشرح ما حدث بالفعل فحسب، بل أيضا لاستخدام التجارب الطبيعية في تقدير ماذا كان ليحدث لو اختلفت الظروف. إليكم سؤالا بسيطا: هل الدراسة بالكليات تؤدي حقا إلى كسب المزيد من المال على مدار مسيرة الشخص المهنية؟ في الواقع، لا يمكن إجراء تجربة كاملة عن طريق وضع الشخص نفسه على مسارين مختلفين في الحياة - مسار يلتحق فيه بإحدى الكليات، ومسار آخر لا يلتحق فيه بأي كلية - لمعرفة ماذا سيحدث. فهذا أمر مستحيل. وفي الوقت نفسه، لا يمكن وضع شخصين على مسارين مختلفين في الحياة لا لشيء سوى لغرض التجربة. فهذا أمر غير أخلاقي.

ومن ثم، فقد تمكن إمبينس وزملاؤه من تصميم واختبار أدوات أكثر دقة لاستخدام بيانات العالم الحقيقي - وهي بيانات فوضوية وغير كاملة ونتاج ملاحظات – في تقدير نتائج لم يكن ليمكن ملاحظتها بطريقة أخرى. وهكذا أصبحوا من رواد مجال الاستدلال السببي، الذي يقارن، على سبيل المثال، بين أشخاص متشابهين يختارون، عن طريق المصادفة أو بسبب الظروف، خيارات مختلفة.

فعلى سبيل المثال، إبَّان حرب فييت نام، خصصت قرعة التجنيد أرقاما عشوائية للشباب. وكان من يحصل على أرقام منخفضة أكثر عرضة للتجنيد الإلزامي. وقد تمكن شباب كثيرون من تجنب الخدمة العسكرية عن طريق الالتحاق بالكليات. وبالتالي، خلقت هذه القرعة نوعا من التجربة الطبيعية، حيث أتاحت للباحثين مقارنة النتائج، مثل الدخل، بين أفراد متشابهين - بعض ممن خدموا في الجيش وبعض ممن لم يخدموا فيه بسبب أرقام التجنيد العشوائية في الأساس وتأثيرها على احتمالات تجنيدهم، وليس بدافع شخصي فقط. وما أهمية ذلك؟ لأن الارتباط غير كافٍ. فإذا رغبت الحكومة في توسيع نطاق الفرص وزيادة الدخل، فمن الضروري أن تعرف ما إذا كان الالتحاق بالكليات يؤدي حقا إلى ارتفاع مستويات الدخل – وألا تكتفي بوجود ارتباط في الغالب بين الأمرين. واليوم، تساعد هذه الطرق صناع السياسات والأطباء والشركات والباحثين في اتخاذ قرارات أفضل بناء على أدلة واقعية.

صداقات مثمرة

جاءت نقطة التحول في مسيرة إمبينس المهنية في أوائل تسعينات القرن الماضي بجامعة هارفارد حين جمعته بأنغريست علاقة تعاون وصداقة دائمة - على الرغم من بدايتهما الصعبة. ولم تتشكل شراكتهما في قاعات الدراسة وإنما في مغسلة عامة محلية. فآنذاك، كانا قد التحقا حديثا بهيئة التدريس، وغالبا ما وجدا نفسيهما يطويان القمصان ويتبادلان الأفكار على خلفية أصوات أجهزة تجفيف الملابس المتداعية في صباح أيام السبت. ويقول أنغريست "العمل مع أصدقائك أكثر متعة". وفي حديثه مع موقع جوائز نوبل NobelPrize.org، قال ممازحا "دائما ما أخبر طلابي أن عليهم انتقاء زملائهم بدقة وعناية كما ينتقون أزواجهم". وقد أثمرت علاقة الصداقة تلك عن مساهمتهما الأكثر تأثيرا على الإطلاق، ألا وهي إطار "متوسط التأثير الموضعي للعلاج". ويتيح هذا الإطار أداة دقيقة لتقدير مدى تأثير حدث ما - مثل الالتحاق بإحدى الكليات - على الشخص الذي يخوض هذا الحدث لظروف عشوائية خالصة، مثل الفوز بمنحة دراسية.

واليوم، أصبح هذا الإطار من الأدوات المعتادة المستخدمة في تحويل البيانات الفوضوية إلى رؤى متعمقة ذات مصداقية. ويصفه إمبينس بأنه وسيلة لا للتركيز على الجميع، وإنما للتركيز تحديدا على الأشخاص الذين تتغير اختياراتهم بفعل قوى خارجية - أي بسبب قانون، أو قاعدة، أو ظروف متغيرة. فصناع السياسات، على سبيل المثال، يستخدمون هذا الإطار في تقييم أثر توفير التأمين الصحي الحكومي المدفوع للمواطنين في سن الخامسة والستين- بموجب القانون - على استخدام الرعاية الصحية، وقياس تأثير الدراسة لمدة أطول بسبب قوانين التعليم الإلزامي على مستويات الدخل. وفي مجال الصناعة، يستخدم وادي السيليكون هذا الإطار في تقييم السمات الجديدة لمنصات التكنولوجيا عن طريق اختيار مجموعة عشوائية من المستخدمين لاختبار هذه السمات. وبالتركيز على الأشخاص الذين تحرك أحداث العالم الحقيقي سلوكياتهم، ساعد هذا الإطار في تحول علم الاقتصاد من نماذج نظرية إلى سياسات عملية قائمة على الأدلة.

ويشيد إمبينس بالبحوث التأسيسية للإحصائي دونالد روبين – وهو زميل وصديق آخر من جامعة هارفارد، حيث كان لها الفضل في مساعدة إمبينس وأنغريست على صياغة أسلوب التفكير في علاقة السببية. ويقول إن المنهج اعتمد على دراسات سابقة، من بينها تعاون أنغريست مع الراحل آلان كروغر، وهو أحد رواد اقتصاديات العمل. فتتضمن الدراسة التي أجرياها في عام 1991 تقدير التأثير السببي للتعليم على مستويات الدخل بناء على ربع العام الذي ولد فيه الأشخاص وقوانين الالتحاق بالمدارس في الولايات المتحدة. ويؤكد إمبينس أن هذه الدراسة "كانت بالغة التأثير" في دفع علم الاقتصاد السببي قدما. وقد أرست تلك التجارب الطبيعية المبكرة الأساس لثورة المصداقية في علم الاقتصاد في تسعينات القرن الماضي، حين بدأ الباحثون في التشكيك في الافتراضات والإصرار على إجراء مقارنات معقولة. وبدأوا في طرح التساؤلات: ماذا كان ليحدث لو اختلفت الظروف؟ وقد كان ذلك تحولا تجريبيا ساعد إمبينس في رسم معالمه باستخدام أدوات جديدة واستراتيجيات أكثر دقة للكشف عن الحقائق.

ويرى كارد، الذي تقاسم جائزة نوبل مع إمبينس وأنغريست لاستخدامه التجارب الطبيعية في أسواق العمل، أن إمبينس يحتل مكانة وسطية نادرة بين النظرية والتطبيق. ويقول "أنا أقرب إلى الممارسة. أما هو، فأقرب إلى المنهجية. ولكنه من المنهجيين الذين يشغل العمل التطبيقي جانبا كبيرا من اهتمامهم". ويساعد عملهما معا على سد الفجوة بين ما يحدث في العالم والسبيل الموثوق إلى فهم أسباب حدوثه. ويقول إمبينس "أردنا أن نجعل الاقتصاد القياسي مفيدا للتجريبيين على نحو لم يكن قد تحقق بعد كما نراه".

ويقول روبين إن ما يقدمه إمبينس لأي فريق عمل أكثر بكثير من مجرد طاقة فكرية. "فهو ودود بالفطرة." وله حضور هادئ وحس بالزمالة يتجاوز أي خلاف ليعيد التركيز على العمل. "ومنهجه في الحياة مختلف في جوانب كثيرة."

في مجال غالبا ما يحتفي باليقين، امتهن إمبينس العمل في فوضى المنتصف - حيث البيانات غير كاملة والأمانة الفكرية هي الأهم.
بدايات مثيرة للفضول

ولد إمبينس في عام 1963 في مدينة غيلدروب بجنوب هولندا. وعلى الرغم من أن والديه لم يعملا في المجال الأكاديمي - بل ولم يتخرجا من الجامعة حين كان صغيرا - فقد نمَّيا فيه رغبة الاستكشاف الفكري. ويقول إمبينس عنهما "لقد حفزا هذه الرغبة فينا". فكان والده يعطيه وشقيقه وشقيقته مسائل رياضية لحلها على سبيل التسلية. ويتذكر إمبينس ذلك قائلا: "كنا نستمتع بهذا الأمر". وقد أثار ذلك فضوله وشغفه بالتفكير المنطقي، وقد شكلت هذه المهارات منهجه الاقتصادي بعد سنوات. ويقول "انتهى بنا الأمر أنا وكلا شقيقي إلى الالتحاق بالجامعة. وقد حصل شقيقي على درجة الدكتوراة في علم الرياضيات."

وفي طفولته، كان إمبينس مفتونا بلعبة الشطرنج، وهو شغف عكس حبه للاستراتيجيات والتفكير التحليلي. وقد ورث أيضا نزعة إلى الاستقلال - وشيئا من العناد - من والدته، آني إمبينس-فرانسين، التي أصبحت في مرحلة لاحقة من حياتها عالمة لاهوت مناصرة للمرأة ومؤلفة. ويتذكر ميلها الفطري للاختلاف. ويقول "كنا نعيش في منزل تمتلكه شركة فيليبس"، وهي شركة الإلكترونيات الهولندية متعددة الجنسيات حيث كان يعمل والده. ويضيف "كانت [الشركة] تقوم بطلاء الأبواب الخارجية مرة كل عام بهذا اللون الأصفر الفاتح الكريه. ولم يكن هذا الأمر يروق لأمي. ولذلك، بعد أن يطلونها باللون الأصفر، كنا نطليها باللون الأسود في اليوم التالي. فكانت المنازل مصطفة بجانب بعضها البعض، وبينها منزل واحد بأبواب غير صفراء."

وبعد إتمام دراسته الثانوية، اختار إمبينس الالتحاق بجامعة إيرازموس في مدينة روتردام، حيث أنشأ زميله الاقتصادي الهولندي الفائز بجائزة نوبل جان تينبرغن، والذي كان له تأثير مبكر على إمبينس، برنامجا للاقتصاد القياسي. ثم انتقل لاحقا إلى جامعة هال في المملكة المتحدة للحصول على درجة الماجستير عام 1986 تحت إشراف أنطوني لانكستر، الذي أقنعه في نهاية المطاف بالانضمام إليه في جامعة براون حيث حصل إمبينس على درجة الدكتوراة عام 1991. وتقول سوزان آثي، زوجة إمبينس وأستاذة زميلة بقسم الاقتصاد في جامعة ستانفورد "كان الالتحاق بجامعة براون للحصول على درجة الدكتوراه بالنسبة لغويدو كما لو كان قد فاز باليانصيب".

وتعرف إمبينس على الاقتصاد القياسي البيزي من خلال لانكستر الذي وفر له الأدوات الفكرية اللازمة، وكذلك، وربما الأهم، شبكة العلاقات التي ساعدت في إنطلاق مسيرة إمبينس الأكاديمية في الولايات المتحدة.

وعقب فترة عمل قضاها في جامعة هارفارد، تقلد إمبينس عدة مناصب في هيئات التدريس بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وبيركلي، ثم ستانفورد في نهاية المطاف حيث يعمل بالتدريس حاليا. وكان من أبرز تطبيقات الاستدلال السببي حين عمل إمبينس في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، حيث أجرى دراسة بالتعاون مع روبين، وبروس ساسيردوتي، طالب الدكتوراه في جامعة هارفارد. واستخدم ثلاثتهما بيانات اليانصيب لدراسة مدى تأثير الأرباح المالية المفاجئة على عمل الأشخاص وقرارات الإنفاق. والنتائج - التي تشير إلى أن الأشخاص لا يستقيلون من وظائفهم بالضرورة بعد تحقيق أرباح غير متوقعة، ولكن الكثيرين منهم يسعون بالفعل إلى تخفيف أعبائهم الوظيفية - ساعدت على تحويل مسار المناقشات بشأن الدخل الأساسي ومعاشات التقاعد، مع توسيع نطاق الاستدلال السببي ليشمل عوامل أخرى بخلاف التعليم والصحة.

حل المشكلات

سرعان ما يقر إمبينس بدور المصادفة في حياته. ويقول "أشعر بأنني محظوظ للغاية. فدائما ما ساقني حظي البالغ إلى المكان المناسب في الوقت المناسب". ومع ذلك، فإن لديه اعتقاد راسخ بأن تكوين علاقات قوية مع كثير من الاقتصاديين الرواد في جيله أمر بالغ الأهمية لعمله بقدر المهارة العملية، وهو يولي أهمية كبيرة لدوره اليوم في توجيه الباحثين الأصغر سنا. وفي هذا الصدد، يقول إمبينس: "بوجه أعم، أحاول التأثير على المهنة في اتجاه واضح – أي تركيز خبراء الاقتصاد القياسي على حل المشكلات المهمة للعمل التجريبي". ويضيف قائلا: "أحاول ترسيخ هذا الأمر في أذهان طلابي، فالأمر لا يتعلق دائما بالرياضيات - وإنما يتعلق بمشكلات مثيرة للاهتمام."

وفي مارس 2025، تم ترشيح إمبينس لمنصب مدير كلية علوم البيانات في جامعة ستانفورد، وهي مبادرة تدعم البحث والمنح من خلال الاكتشاف القائم على البيانات وتعليم علوم البيانات على مستوى الجامعة. ويرى في هذا الدور فرصة لتشجيع الباحثين الشباب، وتعميق العلاقات بين مختلف التخصصات، والتقريب بين علوم البيانات والسياسات الواقعية.

ودائما ما كان التعاون الاقتصادي قاب قوسين من إمبينس. فقد فازت زوجته آثي بوسام جون بيتس كلارك، وهي معروفة بعملها الريادي المتقاطع بين التكنولوجيا وعلم الاقتصاد وتعلُّم الآلة. ويقول إمبينس "سوزان اقتصادية واسعة المعرفة... وهي دوما مصدر إلهام في التعامل مع نوعية المشكلات التي أعمل عليها". وتقول آثي "لقد تشاركنا بالفعل العبء طوال مسيرتنا - وتشاركنا المتعة أيضا"، مشيرة إلى أنه على الرغم من كثرة أعباء عمله، يعيش إمبينس حياة متوازنة للغاية، فهو يركب الدراجة مع زملائه في عطلات نهاية الأسبوع، ويعتني بحديقته، ويدعو طلابه إلى مناسبات مختلفة، وحين يسمح الوقت، وهو أمر نادر هذه الأيام، يُعد وجبات تعلق في الذاكرة.

إلا أن أبرز إنجازاته هو المساعدة في إعادة صياغة طريقة تفكير الاقتصاديين في الأدلة والسياسات وعدم اليقين. وقد أضفى بذلك وضوحا على أسئلة بدت يوما بلا إجابات، وفتح الباب لمزيد من المصداقية في العلوم الاجتماعية. وفي مجال غالبا ما يحتفي باليقين، امتهن إمبينس العمل في فوضى المنتصف - حيث البيانات غير كاملة والأمانة الفكرية هي الأهم، وهي فوضى لها جمالها الخاص. وحين طلب متحف جوائز نوبل من الفائزين التبرع بقطع ذات قيمة لأبحاثهم، اختار إمبينس عبوة منظف ملابس - في إشادة هادئة بتلك الصباحات المبكرة التي قضاها في طي الملابس وتبادل الأفكار مع أنغريست. رموز بسيطة، ولكنها أكثر دلالة على روح إنجازاته - الدقة والتعاون والصلة الوثيقة بالعالم الحقيقي.

غاري سيدمان صحفي مقيم في سياتل وله كتابات منشورة في مجلة الإيكونوميست، وصحيفة نيويورك تايمز، ووكالة رويترز، وشبكة سي إن إن، وقناة إم إس إن بي سي.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.