5 min (1403 words) Read
ستتنافس شركات التكنولوجيا المالية مع البنوك التقليدية وتتعاون معها؛ ويجب أن تقدم السياسة العامة التوجيه في هذا الأمر.
 

يبدأ الابتكار الرقمي في معظم الأحيان بفكرة راديكالية. وقد تكون تلك الفكرة طريقة جديدة لتخزين المعلومات ومعالجتها، أو نموذج أعمال جديدا، أو خدمة جديدة. لكن الفكرة هي مجرد البداية، فتحقيق منافع الابتكار يتطلب عملا جادا واستثمارا كافيا وتبني المستخدمين لهذا الابتكار.

وكان الاضطراب الابتكاري هو السمة البارزة في القطاع المالي على مدار العقد الماضي، حيث ظهرت شركات تكنولوجيا مالية جديدة، وأصبحت المنصات الرقمية الكبرى (شركات التكنولوجيا العملاقة) تقدم خدمات الدفع والائتمان، وأخذت قيمة الأصول المشفرة والعملات الرقمية المستقرة في الزيادة، كما بدأ الكثير من المؤسسات يتبنى الذكاء الاصطناعي. وتفرض كل واحدة من هذه التطورات تحديات أمام جهات الوساطة المالية التقليدية، مثل البنوك وشركات التأمين ومديري الأصول، والخدمات التي يقدمونها (دراسة Ben Naceur and others 2023).

والابتكارات الرقمية قد تكون مكملة للخدمات أو بديلا عنها في النظام المالي التقليدي. ويبدو الكثير من الخدمات وكأنه يقدم بديلا شديد الوضوح لجهات الوساطة والخدمات الحالية في الأجل القصير. غير أنها غالبا ما تكمل الخدمات الحالية في الأجل المتوسط، مما يؤدي إلى مزيد من المنافسة ويخلق نظاما ماليا أكثر تنوعا. ومع هذا، فإن الابتكارات وحدها لا تؤدي دوما إلى أفضل النتائج، فقد لا تسير الأمور على خير ما يُرام، وهو ما يحدث في أغلب الأحيان. والاستفادة من منافع الابتكار الرقمي غالبا ما تقتضي وجود سياسة عامة تتطلع صوب المستقبل.

اضطراب المدفوعات

المدفوعات هي بوابة الخدمات المالية. وبالنسبة للأفراد، غالبا ما يكون وجود حساب معاملات شرطا أساسيا للحصول على الائتمان، أو شراء بوليصة تأمين، أو البدء في الادخار والاستثمار. وبالنسبة للداخلين الجدد في النظام المالي، مثل شركات التكنولوجيا المالية وشركات التكنولوجيا العملاقة، فمن الشائع البدء في إدارة المدفوعات ثم التوسع في مجالات تمويل أخرى.

وقد تغيرت خلال العقد الماضي طريقة الدفع بشكل كبير مع انتشار ما يُسمى بأنظمة الدفع السريعة أو الفورية في كثير من البلدان، وخاصة الأسواق الصاعدة (راجع الرسم البياني 1). وتتيح هذه الأنظمة التحويلات اللحظية (أو شبه اللحظية) بين المستخدمين النهائيين (دراسة Frost and others 2024). وتُوفر شركات التكنولوجيا المالية وشركات التكنولوجيا العملاقة والبنوك القائمة خدمة مدفوعات سريعة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. وتستخدم هذه الشركات تطبيقات الهواتف الذكية ورموز الاستجابة السريعة (QR)، حتى من خلال الهواتف محدودة التكنولوجيا. وقد أتاحت هذه الأنظمة بشكل عام للشركات صانعة الابتكارات الإحلالية تقديم خدمات تُنافس الشركات القائمة بشكل مباشر.

اضطراب المدفوعات

وتركزت أشهر قصص النجاح في البنى التحتية العامة، مثل الأنظمة التي تُشغّلها أو تُشرف عليها البنوك المركزية. ففي البرازيل، على سبيل المثال، أطلق البنك المركزي نظام الدفع السريع (Pix) في نوفمبر 2020. ويستخدم الآن أكثر من 90% من البرازيليين البالغين هذه الخدمة لمدفوعات التجزئة اليومية مثل الطعام أو السفر، وحتى للمدفوعات المتكررة مثل فواتير المرافق. وتُشجّع واجهة المدفوعات الموحدة (UPI) في الهند - التي تُشغّلها مؤسسة المدفوعات الوطنية الهندية ويُنظّمها البنك المركزي - خدمات البنوك القائمة وشركات التكنولوجيا المالية وشركات التكنولوجيا العملاقة على منصة واحدة (طالع المقال بعنوان "الهند وسلاسة أداء المدفوعات" في هذا العدد من مجلة التمويل والتنمية). ومن بين النجاحات المماثلة شركة PromptPay في تايلند التي تديرها جهة خاصة ولكن مع قيام البنك المركزي بدور رئيسي، ونظام SINPE Móvil للدفع اللحظي في كوستاريكا، الذي يشغله البنك المركزي.

وتتناقض هذه البنى التحتية العامة الناجحة مع الوضع في كثير من الاقتصادات، حيث توجد أنظمة دفع سريع متعددة تابعة للقطاع الخاص، إلا أنها غير متاحة لمستخدمي خدمات المؤسسات المالية الأخرى. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، لا يستطيع من يستخدم خدمة Venmo للدفع عبر الهاتف الذكي أن يدفع لمن يستخدم نظام Zelle للدفع اللحظي فقط. ونشأت كذلك "حدائق مسوّرة" مماثلة في الصين مع وجود محافظ متنافسة مثل نظام Alipay للدفع الرقمي، ونظام WeChat Pay للدفع اللحظي، وكذلك الحال في بيرو، حيث تتنافس محافظ Yape وPlin على جذب المستخدمين (دراسة Aurazo and Gasmi 2024). وكان تدخل السياسات ضروريا في حالة الصين وبيرو لجعل أنظمة الدفع قابلة للتشغيل البيني.

وفي كثير من الأحيان، نجد أن ما يبدأ كبديل (شركات التكنولوجيا المالية وشركات التكنولوجيا العملاقة المتنافسة) يمكن أن يُكمّل الخدمات القائمة في السوق نفسها. فيحصل المستخدمون على خدمة مدفوعات أرخص وأسرع، وهو ما يمكنه كذلك أن يدعم الصلابة المالية ويعزز النمو الاقتصادي. ويساعد صناع الابتكارات الإحلالية – وكذلك السياسات العامة - على تحسين النظام، وخدمة عملاء جدد، وتقديم خدمات جديدة في السوق نفسها، ودفع الشركات القائمة إلى تحسين ما تقدمه.

التحول الرقمي في الائتمان

تأتي الحاجة إلى الاقتراض بعد أداء المدفوعات. وتحتاج الشركات إلى الائتمان للقيام باستثمارات منتجة، كما يحتاجه الناس لشراء منازل أو سيارات أو لدفع تكاليف التعليم.

وفي بدايات ثورة التكنولوجيا المالية، بدا وكأن منصات الإقراض الجديدة يمكن أن تحل محل العديد من وظائف البنوك. وشهد الإقراض الجماعي وغيره من منصات الائتمان الجديدة نموا سريعا، مستخدما في كثير من الأحيان بيانات بديلة لتقدير التصنيف الائتماني وربط المقترضين والمقرضين بعمليات رقمية مبسطة. وسرعان ما طغى على هذا النمو الإقراض الجديد الذي قدمته شركات التكنولوجيا العملاقة، مثل إقراض التجار من قِبل أمازون في الولايات المتحدة وعلي بابا في الصين. وازدهر حجم ائتمان شركات التكنولوجيا العملاقة (دراسة Cornelli and others 2023).

ونجحت هذه المنصات الجديدة في تضييق الفجوات في أسواق الائتمان وتعزيز الشمول المالي. ففي الأرجنتين، على سبيل المثال، تدخّلت شركة Mercado Pago لدعم صغار التجار الذين رفضت البنوك إقراضهم. وفي الصين، كانت خطوط الائتمان التي وفرتها شركات التكنولوجيا العملاقة أقل تأثرا بأسعار المنازل من الائتمان المصرفي، وذلك من المحتمل أن يقلل من أهمية الضمانات. وفي الولايات المتحدة، استهدف مُقرضو الأعمال الصغيرة باستخدام التكنولوجيا المالية المناطق التي ترتفع فيها معدلات البطالة والإفلاس، حيث يقلّ احتمال الحصول على قروض من البنوك. ويتفاوت تأثير شركات التكنولوجيا المالية وشركات التكنولوجيا العملاقة عموما بشكل كبير من بلد إلى آخر.

ولكن البنوك لا تزال حاضرة بقوة في المشهد، وتتنافس الآن مع مجموعة جديدة من جهات الوساطة. وقد غيّرت نماذج أعمالها لتشبه المنصات، ولكي تستخدم بيانات بديلة. وفي المقابل، حصل العديد من الشركات المنافِسة، مثل شركة Revolut للتكنولوجيا المالية في المملكة المتحدة وبنك التكنولوجيا المالية Nubank في البرازيل، على تراخيص وأصبحت بنوكا في حد ذاتها.

العملات المُشَفَّرَة والتمويل اللامركزي

في حين أن شركات التكنولوجيا العملاقة تتحدى المؤسسات المالية القائمة في مجالها، فإن الأصول المشفرة والتمويل اللامركزي يَعِدان بإعادة تصور القطاع المالي استنادا إلى الثقة في القانون بدلا من المؤسسات. ويشهد اعتماد العملات المشفرة ارتفاعا عالميا مجددا على الرغم من تاريخه الطويل في التقلب، والذي كان يحدث غالبا لأغراض الاستثمار المضارِب. ولكن هذا الارتفاع جاء بفضل الدعم السياسي لهذه الأصول في بعض البلدان.

وكان الهدف من العملات المشفرة تعزيز اللامركزية، لكن الأمور لم تسر على هذا النحو. ودخول بورصات العملات المشفرة والبنوك التقليدية وصناديق الاستثمار وغيرها إلى السوق يعني أن السوق لا تزال تعتمد على الوساطة وغالبا ما تكون مركزية. والأهم من ذلك أن الأصول المُشَفَّرة غير المدعومة غالبا ما تكون محدودة الاستخدام نظرا لأنها يمكن أن تصبح شديدة التقلب.

وظهرت العملات الرقمية المستقرة كبديل، وتربط قيمتها بعملات الإبراء القانوني الورقية، والتي زعمت العملات المشفرة أنها تحدت قيمتها. وتتولى إصدار أكبر العملات الرقمية المستقرة كيانات مركزية تحتفظ بأصول مثل سندات الخزانة الأمريكية والودائع المصرفية لدعم العملات الرقمية المستقرة المتداولة. غير أن قطاع العملات المشفرة لا يزال محفوفا بالمخاطر، حتى مع وجود هذه الجهات الوسيطة الجديدة، ومع تنامي وجود العملات المستقرة. ومن بين تلك المخاطر انتشار الاحتيال والنصب وغسل الأموال وتمويل الإرهاب. وإضافة إلى ذلك، فإن العملات الرقمية المستقرة لا توفر المرونة اللازمة في النظام النقدي. ونظرا لارتباط أكثر من 98% من العملات الرقمية المستقرة من حيث القيمة بالدولار الأمريكي، فإنها قد تُضْعِف أيضا السيادة النقدية في كثير من مناطق الاختصاص.

ومع ذلك، تُقدم العملات المشفرة والرقمية المستقرة لمحة عن وظائف قد تُطَبَّق على نطاق أوسع. فعلى سبيل المثال، يمكن لقابلية البرمجة والترميز تحسين الوظائف الحالية وتمكين وظائف جديدة ضمن النظام النقدي الحالي، شريطة أن تظل البنوك المركزية أساس هذه العملية، وأن تظل البنوك التجارية تتعامل مع العملاء. ويُمكن على سبيل المثال للترميز إعادة هيكلة نظام البنوك المراسلة في حالة المدفوعات الدولية العابرة للحدود، مما سيسمح بالمراسلة والتسوية وتحويل الأصول في خطوة واحدة. وقد تؤدي وظائف جديدة، مثل التسوية المتزامنة ("الذرية") وكذلك تعزيز إدارة الضمانات، إلى رفع مستوى أداء أسواق رأس المال بشكل كبير. ويمكن لهذه الوظائف أن تضع الأساس لنظام مالي مُرمز في المستقبل.

السياسة العامة وتوجيه الابتكار

أحدثت هذه الابتكارات الجذرية تغييرا مؤثرا في النظام المالي خلال العقد الماضي. ففي أغلب الأحيان، تطورت التحديات الصارخة التي هددت باستبدال الخدمات القائمة لتصبح شيئا جديدا مُكَمِّلا لتلك الخدمات، مما عزّز المنافسة في كثير من الأوقات. وقد ساهم ذلك عامة في خفض أسعار المستهلكين وزيادة كفاءة الخدمات. ولكن الابتكار وحده قد لا يؤدي دائما إلى أفضل النتائج.

وقد أتاحت السياسات العامة الاستشرافية تحقيق بعضٍ من أكبر الإنجازات وأكثرها تأثيرا. وأصبح اعتماد المدفوعات السريعة، والتقدم الملموس في الوصول إلى حسابات الدفع، ممكنا بفضل التفاعل بين البنى التحتية للقطاع العام والابتكار الخاص. وكذلك ساعدت الخطوات الاستباقية التي اتخذتها السلطات العامة، حتى في مواجهة الإحجام في البداية من جانب الشركات القائمة، على تحسين خدمات الدفع والشمول المالي، وهو ما يظهر بجلاء في حالة واجهة المدفوعات الموحدة في الهند ونظام الدفع السريع Pix في البرازيل. وقد ساعد هذا على اندماج مئات الملايين من الناس في النظام المالي حول العالم.

وفي الوقت نفسه، تظهر مخاطر كبيرة بسبب الابتكار قد تُقوّض الاستقرار المالي. فعلى سبيل المثال، قد تنتقل الصدمات الناجمة عن قطاع العملات المشفرة إلى النظام المالي التقليدي، وهو ما قد يشكل مخاطر على سوق سندات الخزانة الأمريكية (دراسة Ahmed and Aldasoro 2025).

وللاستفادة من إمكانات الابتكار وتخفيف المخاطر، لا بد من طرح أفكار جديدة وجذرية، لكن ذلك ليس كافيا في حد ذاته. ونحتاج كذلك إلى بنى تحتية عامة وتنظيم سليم وتجارب عملية في القطاعين العام والخاص لاستخلاص رؤى جديدة وتوجيه الاستثمار الخاص والسياسات العامة على أساس مستنير. وأخيرا، يتعين على القطاعين العام والخاص التنسيق لتوجيه التكنولوجيات الرقمية نحو تطبيقات تعود بالنفع الحقيقي على الأفراد والشركات، وتضع أسسا متينة لتحقيق الازدهار. ومن الأمثلة الحديثة على هذا النوع من التنسيق مبادرة مشروع أغورا (Project Agorá) الذي يجمع البنوك المركزية والبنوك التجارية لاستكشاف إمكانية تطوير دفتر حسابات رقمية موحد للاستفادة من منافع الترميز في أداء المدفوعات العابرة للحدود.

إينياكي ألداسورو خبير اقتصادي رئيسي.
جون فروست رئيس الابتكار والاقتصاد الرقمي.
فاتسالا شريتي خبيرة اقتصادية في إدارة الشؤون النقدية والاقتصادية في بنك التسويات الدولية.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.