5 min (1403 words) Read

لكن على الاتحاد الأوروبي أولا أن يتغلب على انعدام الثقة بين بلدانه الأعضاء وفي مؤسساته

 

قال جون مونيه، أحد الآباء المؤسسين للاتحاد الأوروبي، في نبوءته االشهيرة إن أوروبا شكلتها الأزمة. لكن ما يجعل الأزمة التي تكتنف القارة اليوم بالغة الخطورة هو أن لها ثلاثة أبعاد متشابكة: بُعد جغرافي-سياسي، وبُعد اقتصادي، وآخر مؤسسي. إنها أزمة لا يمكن حلها بمزيد من الاقتراض أو بسيل من القواعد الجديدة الآتية من بروكسل فحسب. بل إن حلها يقتضي تغييرا كاملا في العقلية. فهل الأوروبيون مستعدون حقا لمثل هذه القفزة؟ 

إن التحدي الأول أمام أوروبا هو التأكد من استمرارية تمكنها من الوصول إلى الموارد التي تحتاجها لتشغيل اقتصادها في عالم ينهار فيه النظام القديم القائم على قواعد. فالاتحاد الأوروبي هو نتاج النظام العالمي القائم على قواعد كما أنه شديد الاعتماد عليه نظرا لأنه منطقة تفتقر إلى الموارد الذاتية. ومن المتوقع أن يزداد الطلب على المعادن الحيوية الضرورية لتكنولوجيات الطاقة النظيفة بمقدار خمسة أضعاف بحلول عام 2040، إلا أن نصيب الاتحاد الأوروبي من الإنتاج العالمي أقل من 7%. ويتركز إنتاج معظم المعادن بشكل كبير في بلد واحد أو اثنين. وفي الوقت ذاته، تسيطر الصين على التكرير— لدرجة أنها تقوم حتى بتكرير ناتج التعدين المحدودة لأوروبا نفسها.

وقد سعى الاتحاد الأوروبي لتنويع سبل الحصول على المعادن الحيوية من خلال الاتفاقات التجارية. ولكنها تظل عرضة لمزيج من مخاطر الحروب التجارية، والقيود المتزايدة على التصدير، ورغبة الاقتصادات النامية في الاستئثار بالمزيد من سلسلة القيمة، بالإضافة إلى غياب آلية فعالة لفض المنازعات في منظمة التجارة العالمية.    

أما تأمين حصول الشركات الأمريكية على المعادن الحيوية فهو محور السياسة الخارجية للرئيس دونالد ترامب التي تحمل اسم "أمريكا أولا". ولكن الشركات الأوروبية - التي تعوقها القواعد البيئية والاجتماعية وقواعد الحوكمة والشواغل حول الاستقرار السياسي وسيادة القانون - موجودة بالكاد في سلسلة إمداد المعادن الحيوية. فهل تستطيع أوروبا المكبلة بالقواعد أن تضع الاستراتيجيات الجغرافية-السياسية والصناعية التي تمكنها من المنافسة في هذا النظام العالمي الأكثر إثارة للنزاع؟

تكامل أعمق

يتمثل التحدي الثاني أمام أوروبا في تعميق التكامل الاقتصادي من أجل تعزيز الإنتاجية والقدرة التنافسية. وتحدد التقارير التي أعدها إنريكو ليتا وماريو دراغي أوجه قصور السوق الموحدة بوضوح لا يُجَمِّل الحقائق كما تقدم مخططات واضحة للإصلاح تعهدت المفوضية الأوروبية بتنفيذها. فقد شدد رئيسا وزراء إيطاليا السابقان على ضرورة الحد من الروتين الإداري ومد نطاق السوق الموحدة لتشمل القطاعات التي استعصت على التكامل بما في ذلك قطاع الدفاع والطاقة والاتصالات اللاسلكية والقطاع المالي.

ومع ذلك، ظل الاتحاد الأوروبي يناقش هذه المسائل لسنوات إن لم يكن لعقود. فقد أعلن الاتحاد الأوروبي أولا جدول أعمال للتنظيم على نحو أفضل في عام 2002 ثم أصدر واحدا آخر، وهو برنامج اللياقة والأداء التنظيمي، في عام 2015. وكذلك فقد تحدث عن تكامل أعمق في الخدمات المالية لمدة زمنية تقارب عمر السوق الموحدة. ووضعت تقارير جيوفانيني مقترحات في عامي 2001 و2003 ظهر كثير منها لاحقا بصفته جزءا من عملية الدفع نحو إنشاء اتحاد أسواق رأس المال في عام 2015. والآن أعيد إطلاق المشروع تحت مسمى آخر وهو اتحاد الادخار والاستثمار. ومع ذلك لايزال الاتحاد الأوروبي يضم 18 سوق مقاصة و21 سوقا للتسوية في مقابل سوق واحدة فقط لكل من المقاصة والتسوية في الولايات المتحدة. وينعكس هذا التشرذم في البنية التحتية للسوق على المنتجات والخدمات التي تتسم بالتجزؤ.

الحاجز الحقيقي أمام التكامل على مستوى أعمق يكمن في الحمائية التي تمارسها الدول الأعضاء وليس في غياب الطموح من جانب بروكسل".
المغالاة في التطبيق

يكمن الحاجز الحقيقي أمام التكامل الأعمق في الحمائية التي تمارسها الدول الأعضاء وليس في غياب الطموح من جانب بروكسل. وغالبا ما تأخذ شكل "المغالاة في التطبيق" — حيث تغالي الدول الأعضاء في زيادة الشروط المحلية عند دمج توجيهات السوق الأوروبية الموحدة في القانون المحلي. وقد وعدت المفوضية بمكافحة هذه الممارسات. وفي الكلمة التي ألقاها كون لينيرتس، رئيس محكمة العدل الأوروبية، في شهر يناير الماضي، ذكَّر المفوضين بأن لديهم الصلاحية لرفع قضايا ضد الدول الأعضاء المخالِفة. ولكن هل المفوضية حقا مستعدة لاتخاذ الإجراءات القانونية ضد الحكومات بسبب المغالاة في التطبيق؟

ومما يجعل الدفع نحو تكامل أعمق في مجالات الدفاع والطاقة والاتصالات اللاسلكية والمجال المالي أشد صعوبة هو أنها متوغلة في جوانب جوهرية تتعلق بالسيادة. فلنضرب مثلا بالخدمات المالية. لا يختلف أحد على أن إنشاء أسواق رأسمالية عميقة هو أمر حيوي لتوجيه ادخار أوروبا الضخم - الذي يقبع جزء كبير منه في حسابات البنوك أو يستثمر لدى صناديق في الخارج - نحو دعم الشركات الأوروبية. غير أن اتحاد الادخار والاستثمار الحقيقي يتطلب أكثر من مجرد إنشاء جهة تنظيمية أوروبية جديدة وموحدة للأوراق المالية، فهو يقتضي تنسيق قواعد الإعسار القومية، وقانون الشركات، وجوانب في قانون الضرائب إلى جانب تشجيع أدوات معاشات التقاعد على مستوى أوروبا. وإدراكا منها لاستحالة حدوث هذا التنسيق سياسيا، أعادت المفوضية إحياء فكرة النظام القانوني الثامن والعشرين بصفته بديلا - وهو حل طُرِح لأول مرة في عام 2009 لكنه لم يسفر عن نتيجة تُذكَر حتى الآن.

وفي الوقت نفسه، من المثير للانتباه أن عملية الانتهاء من إنشاء الاتحاد المصرفي الأوروبي، والتي كان يفترض وجودها على رأس قائمة أولويات السوق الموحدة لدى كل فرد من صناع السياسات في أي وقت على مدار العقد الماضي، كادت تغيب تماما عن المناقشات حول كيفية إنعاش قدرة أوروبا التنافسية اليوم. فالأمر يبدو وكأن تلك التدابير مثل كتاب القواعد المصرفية الموحدة، أو الترتيب المشترك للدعم المالي لصندوق التسوية الموحد من أجل إعادة هيكلة جهات الإقراض المتعثرة، أو برنامج مشترك للتأمين على الودائع قد وضعت كلها في صندوق كُتب عليه "صعب للغاية". ولكن بدون وجود بنوك مزدهرة عابرة للحدود لترتكز عليها أسواق رأس المال الأوروبية فمن غير المحتمل أن يتمكن اتحاد للادخار والاستثمار من تحقيق إمكاناته كاملة.

وثمة شاغل ذو صلة يتمثل في أنه رغم إمكانية تحقيق السوق الموحدة لوفورات الحجم، فإن الدول الأعضاء تخشى أن يعرضها اختفاء الصناعات المحلية لمخاطر جديدة. هل يُعَرِّض اتحاد أسواق رأسمالية حقيقي بعض الدول الأعضاء لمخاطر خروج الادخار المحلي من نظامها المالي؟ وإذا دُمِجَ قطاع الدفاع الأوروبي، هل ستظل الدول الأعضاء قادرة على الحصول على الأسلحة عند حدوث أزمة؟ وإذا أزيلت الحواجز الوطنية أمام دمج أسواق الاتصالات اللاسلكية للهواتف المحمولة، فهل ستفقد الحكومات سيطرتها على جزء حيوي من البنية التحتية؟ وهل تكامل أسواق الطاقة سيجعل البلدان عرضة لمخاطر ارتفاع الأسعار أو حتى لنقص الموارد إذا اندلعت أزمة في بلد آخر في القارة؟

ويشير ذلك إلى التحدي الثالث وهو غياب الثقة بين الدول الأعضاء وكذلك في العمليات المؤسسية في الاتحاد الأوروبي. لطالما كان الاتحاد الأوروبي مكبلا بإشكالية الطموح والوحدة كما أسماها فابيان زوليغ الرئيس التنفيذي لمركز السياسة الأوروبية وهو مؤسسة بحثية في بروكسل. وكانت هذه الكتلة تسعى دائما للمضي تبعا لمبدأ الإجماع لأقصى ما يمكن حتى إذا لم تستدع الضرورة ذلك وحتى لو كان على حساب بعض أهدافها للتكامل. ولكن أصبح تحقيق هذا الإجماع أصعب بعد أن أصبحت السياسة أكثر تشرذما على المستويين القومي والأوروبي. ويبدو حقا أن عدم قدرة أوروبا الواضحة على مواجهة تحدياتها الاقتصادية لا تؤدي إلا إلى المزيد من تقويض الدعم لتكامل الاتحاد الأوروبي.

ترتيبات مرتجلة

ومما يزيد المشكلة تعقيدا وجود بعض الأطراف الرئيسية المعنية بمعالجة أشد تحديات أوروبا إلحاحا خارج الاتحاد الأوروبي. بريطانيا بوجه خاص لها دور ذو أهمية محتملة في الدفاع على المستوى الأوروبي، وفي الأسواق الرأسمالية، وتكامل قطاع الطاقة. وقد يكمن جزء من الحل في تخطي العمليات المؤسسية للاتحاد الأوروبي بهدف إنشاء تحالفات لمن يرغب في مجالات مثل الدفاع، وبالتالي الاعتماد على ترتيبات مرتجلة فيما بين الحكومات. ولكن يجب أن تكون هذه الاتفاقات مرنة بما يكفي لاستيعاب التغيرات في الحكومة ومن المحتمل أن تتسبب في ظهور تعقيدات قانونية جديدة وتؤدي إلى تفاقم التشرذم.

لقد حققت أوروبا الكثير من القفزات الكبيرة التي كانت تبدو مستحيلة في طريقها نحو التكامل في مواجهة الصدمات على مدار الثمانين سنة الأخيرة. وإزاء مواجهة الصدمة التي تمثل مصدرا لمخاطر عميقة على الأمن والرخاء، على المرء أن يحذر المراهنة على إمكانية تغلب القارة على تحدياتها الجغرافية-السياسية والاقتصادية والمؤسسية الراهنة. ولكن إذا أرادت أوروبا أن تصبح قطبا في العالم الجديد متعدد الأقطاب فيجب عليها صياغة وحدة تتجاوز أي تصور سبق لها التفكير فيه - وبشكل عاجل أيضا.

سايمون نيكسون يكتب الرسالة الإخبارية بعنوان ثروة الأمم وسبق أن شغل منصب كبير المعلقين المعنيين بأوروبا في جريدة وول ستريت جورنال.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.