5 min (1403 words) Read
منظورات إقليمية

يعتبر النظام القوي متعدد الأطراف بالغ الأهمية لتعزيز الرخاء الاقتصادي للمنطقة

حضر 19 وفدا من أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي من أصل 44 وفدا مؤتمر بريتون وودز. وبحلول الوقت الذي بدأ فيه صندوق النقد الدولي عملياته في عام 1947، كانت الأغلبية الساحقة من بلدان أمريكا اللاتينية - التي تمثل أكثر من 40% من الأعضاء الأوائل في الصندوق - قد وقعت على اتفاقية تأسيسه. ويؤكد ذلك التزام أمريكا اللاتينية بنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الموجه نحو النمو والاستقرار، فضلا عن الدور الأساسي الذي تؤديه المنطقة في تحقيق ذلك.

وبعد مرور ثمانين عاما، كان التقدم المحرز في بعض مجالات الاقتصاد العالمي أكبر بكثير مما كان يحلم به الأعضاء المؤسسون لصندوق النقد الدولي. ولكن في بلدان أخرى، كان التقدم مخيبا للآمال. وهذا صحيح بالنسبة لأمريكا اللاتينية أيضا. فمن ناحية، يقدر سكان أمريكا اللاتينية بشكل عام الفوائد المرتبطة بالنظام الدولي القائم على القواعد. وتزدهر المجتمعات المدنية النابضة بالحياة وتنتعش روح المبادرة الابتكارية في مجال ريادة الأعمال في العديد من أنحاء المنطقة. وقد تمت تهدئة التضخم والإسراف المالي - وهما آفة المنطقة على مدى عقود من الزمن - بشكل كبير في جميع الحالات باستثناء عدد قليل منها.

ومن الناحية الأخرى، لا يزال هناك تفاوت كبير في الدخل والفرص. ويخلق ذلك تحديات كبيرة فيما يتعلق بالأمن والجريمة والأوضاع الاجتماعية. وخلف تأثير توترات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الذي طال السياسة الداخلية ندوبا لا تزال مؤلمة، مما أعاق تحقيق توافق في الآراء على الصعيد الوطني بشأن كيفية تحقيق النمو الشامل للجميع. ويجب التغلب على التضخم بشكل كامل ودائم في جميع أنحاء المنطقة.

ومنذ ثمانينات القرن الماضي، أثبتت البرامج التي يدعمها صندوق النقد الدولي، مع وجود ملكية محلية قوية، فعاليتها في العديد من البلدان، من شيلي والمكسيك إلى البرازيل وجامايكا. ويدل ذلك على أن البرامج الناجحة أساسية لمنع استخدام موارد الصندوق بشكل متكرر وما يقترن بذلك من وصمة. وينبغي للدروس المستفادة من النجاحات والإخفاقات الماضية أن توجه البرامج الحالية والمستقبلية لتجنب العلاقة المضطربة في بعض الأحيان بين صندوق النقد الدولي وبعض البلدان في المنطقة.

أهمية العمل متعدد الأطراف

سوف يستمر اعتماد مستقبل أمريكا اللاتينية على العمل متعدد الأطراف وتحقيق الأهداف الأساسية لصندوق النقد الدولي، على النحو المنصوص عليه في المادة الأولى. ويتعين على الصندوق أن يضاعف جهوده لتحقيق هذه الأهداف – وألا يغفل عنها. وهذا هو السبيل الوحيد أمام أمريكا اللاتينية لتحقيق نمو واستقرار اقتصادي مستمرين. وبالطبع، فإن الاقتصاد العالمي الآن مختلف تماما عما كان عليه في عام 1944. ويفرض ذلك مخاطر ويخلق فرصا مختلفة تماما على مدى السنوات الثمانين المقبلة. ويجب أن يواصل صندوق النقد الدولي التكيف من أجل تلبية احتياجات أمريكا اللاتينية.

وعند مطلع هذا القرن، كان مزيج الاقتصادات الصاعدة في آسيا والنظام النقدي الدولي القائم على الدولار الأميركي مفيدا لاقتصادات أمريكا اللاتينية التي أنشأت أطرا نقدية ومالية ذات مصداقية إلى جانب قواعد واضحة لإدارة الاقتصاد الكلي المحلي بشكل سليم. وسمح ذلك لها بتحقيق النمو والاستقرار مع انفتاحها بشكل أكبر على التجارة والتمويل. ولم يؤثر النمو المخيب للآمال في العقد الماضي سلبا على تحقيق استقرار الأسعار واستقرار المالية العامة؛ ويسير العديد من البنوك المركزية في أمريكا اللاتينية على طريق تيسير السياسة النقدية بعد أن تمكنت من الصمود في وجه الصدمات العالمية الكبرى.

غير أن هناك مخاطر عالمية مستقبلية تلوح في الأفق. فالتشتت الجغرافي الاقتصادي يهدد بتقويض المكاسب التي تحققت بشق الأنفس والناتجة عن عالم متكامل. وفي حين تتمتع المناطق والبلدان الاقتصادية الكبرى - بأسواقها الداخلية الضخمة وهياكلها الإنتاجية المتنوعة - ببعض القدرة على الصمود في مواجهة التشتت العالمي المحتمل، فإن اقتصادات أمريكا اللاتينية أكثر عُرضة للمخاطر، نظرا لصغر حجمها نسبيا وتخصصها الكبير في الموارد الطبيعية. ولا تزال ميزتها النسبية تكمن في وفرة الموارد الطبيعية، وبينما يمكن أن يوفر التكامل الإقليمي قدرا من التنويع من الناحية النظرية، فإن الفجوات الداخلية والإقليمية في البنية التحتية لا تزال تشكل عقبات رئيسية.

حرب باردة جديدة

إن أي انقطاع سياسي-جغرافي كبير يؤدي إلى تعطيل التجارة والتمويل بين المناطق الاقتصادية الرئيسية في العالم سيكون له آثار كارثية بالنسبة للأغلبية الساحقة من اقتصادات أمريكا اللاتينية. وحتى لو لم يحدث الأسوأ، فإن التوترات السياسية العالمية الناجمة عن حرب باردة ثانية قد يكون لها مرة أخرى تداعيات وتسبب اضطرابا في السياسات الداخلية والمجتمعات المحلية في أمريكا اللاتينية.

ومع ذلك، لا ينبغي أن يكون هذا هو الحال. وخلافا لما حدث في عام 1947، عند بداية الحرب الباردة، فإن مدى التكامل الاقتصادي اليوم بلغ درجة تجعل تكاليف العودة إلى النظام الاقتصادي القائم على الاكتفاء الذاتي واضحة لجميع أصحاب المصلحة العالميين الرئيسيين ومجتمعاتهم. وكان السبب وراء وجود الهيكل المالي الدولي هو على وجه التحديد منع الاضطرابات التي جعلت النظام الاقتصادي القائم على الاكتفاء الذاتي والحرب الشرسة هدفين سياسيين قابلين للتحقق في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. وطالما واصلت إدارة صندوق النقد الدولي التكيف مع الظروف العالمية الجديدة، فإن الصندوق سيظل المنتدى الرئيسي للتعاون الاقتصادي الدولي.

ويجب أن يظل إبلاغ القوى بالحقيقة، ولا سيما فيما يتعلق بالمخاطر التي تهدد الاقتصادات الصغيرة والمتوسطة نتيجة للتراجع المدمر للعولمة، مبدأ توجيهيا لصندوق النقد الدولي إذا كان يريد أن يخفف المخاطر وتأثيرات التشتت على أمريكا اللاتينية.

يجب أن يظل إبلاغ القوى بالحقيقة، ولا سيما فيما يتعلق بالمخاطر الناتجة عن التراجع المُربِك للعولمة، مبدأ توجيهيا لصندوق النقد الدولي.

ويتمثل الخطر العالمي الرئيسي الآخر في العواقب الشديدة المترتبة على تغير المناخ. ومن الواضح أن الاضطرابات الناجمة عن كوكب أكثر سخونة تؤثر تأثيرا سلبيا مباشرا على العالم. ومع ذلك فإن الواقع في أمريكا اللاتينية أكثر تعقيدا وتنوعا. ففي البلدان التي تعتمد بشكل كبير على استغلال الوقود الأحفوري لتحقيق إيرادات المالية العامة، سيكون التحول إلى الطاقة النظيفة مؤلما للغاية. وسيكون الأمر أسهل بكثير للبلدان التي تتمتع بموارد طبيعية مثل الليثيوم والنحاس وبمزايا نسبية في مجال الطاقة المتجددة اللازمة لعملية التحول؛ ويمكن أن تُتوقع عوامل دافعة إيجابية لسنوات قادمة. ولكن السيناريو ليس واضحا. وتكتسب المؤسسات السليمة أهمية بالغة حتى لا يتم إهدار الفرص ويُدار تمويل المناخ بالشكل الصحيح – ويتم التغلب على المشاكل الشائكة الأخرى، مثل ندرة المياه، والهجرة بسبب المناخ، وأمن الطاقة. وسيُطلب من صندوق النقد الدولي دعم الجهود الوطنية في المنطقة من خلال المساعدة الفنية والتمويل مع المؤسسات الشريكة الأخرى.

وتجنب التشتت الاقتصادي ومواجهة مخاطر تغير المناخ يتطلب وجود مؤسسات متعددة الأطراف تعمل بشكل جيد مثل صندوق النقد الدولي. ويعد نجاح هذا النظام العالمي منذ عام 1945 واضحا، ويبين أن العمل الجماعي في الواقع يحقق أكثر من عمل الأطراف منفصلة فيما يتعلق بالتعاون الدولي. ولكن على كل جزء أن يؤدي دورا بنّاء.

فمن ناحية، تقع على عاتق الولايات المتحدة - باعتبارها المهندس الرئيسي لعصر ما بعد الحرب العالمية الثانية - مسؤولية كبيرة عن إنشاء بنيان مالي دولي يعمل بشكل جيد ووتحقيق الرخاء السلمي في نصف الكرة الغربي. ومن شأن انسحاب الولايات المتحدة من العمل الدولي أن يدمر ترسا أساسيا في آلة العولمة، ويمكن أن يؤدي أخذ أمريكا اللاتينية كأمر مسلم به إلى أن تصبح آلام الماضي أكثر وضوحا، وهو ما سيغذي المشاعر المناهضة للولايات المتحدة في المنطقة.

ومن الناحية الأخرى، فإن الإنجازات الاقتصادية الهائلة التي حققتها الصين جعلت منها جهة فاعلة اقتصادية رئيسية في التجارة الدولية والشؤون العالمية، بما في ذلك في أمريكا اللاتينية. ويعتبر النهج البنّاء من جانب الولايات المتحدة والصين تجاه التعددية السلمية في العقود المقبلة عنصرا ضروريا في الوقت الذي يواصل فيه صندوق النقد الدولي دعم مستقبل أمريكا اللاتينية. 

بابلو غارسيا-سيلفا أستاذ بكلية إدارة الأعمال بجامعة أدولفو إيبانيز، ويرأس حاليا لجنة تجري تقييما خارجيا لمكتب التقييم المستقل في صندوق النقد الدولي. وهو نائب سابق لمحافظ البنك المركزي الشيلي وعضو سابق في المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.