5 min (1403 words) Read

التحول الاقتصادي الناجح في بولندا يمكن أن يكون مصدر إلهام للقارة اليوم

 

تشهد أوروبا صحوة جغرافية-سياسية ستؤدي أيضا إلى إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي للقارة. فهل سيستطيع الاتحاد الأوروبي استجماع إرادة التغيير؟ تشير التجارب السابقة إلى أن الإجابة بالإيجاب.

ففي الفترات العصيبة، يجب أن ننظر إلى ماضينا لنستمد منه الإلهام للحاضر. وتقدم بولندا قصة من هذه القصص الملهمة، إذ قفزت مستوياتنا المعيشية بمقدار 3,6 مرة، من دخل الفرد البالغ 13100 دولار في عام 1990 إلى 47100 دولار بالقيمة الحقيقية اليوم. ومن المنتظر أن تحقق بولندا نموا بنحو 4% هذا العام، وهو ما يمثل واحدا من أسرع المعدلات بين أكبر اقتصادات الاتحاد الأوروبي. 

وقد مررنا بزلزال جغرافي-سياسي في عام 1989، عندما سقطت الشيوعية واستعاد البولنديون حريتهم. غير أن اقتصاد ما بعد الاقتصاد الشيوعي كان يعاني من المنافسة الدولية. وكانت المنشآت الصناعية الكبيرة المملوكة للدولة تفتقر إلى الكفاءة ونصيب الفرد من الدخل منخفضا بشكل كارثي، في الوقت الذي حدثت فيه قفزة في معدلات البطالة والتضخم. وكان الوضع الاجتماعي-الاقتصادي مزريا.

غير أن بولندا أحرزت على مر السنين تقدما مطردا ومثيرا للإعجاب لتصبح بلدا مرتفع الدخل. ويعكس هذا النجاح إصلاحات نظامية وهيكلية نُفذت بشكل جيد، ولكنه يعكس في المقام الأول مثابرة شعبنا وعمله الدؤوب. فمنذ عام 1989، نما إجمالي الناتج المحلي البولندي بنسبة 220% بالقيمة الحقيقية. وانخفضت البطالة من معدلات ذات رقمين في التسعينات إلى أقل من 3% اليوم، وهي واحدة من أدنى المعدلات في الاتحاد الأوروبي.

أسس النجاح

لم ينجح الإصلاح إلا بفضل قدرة شعبنا وانخراط مجتمعنا وتعطشه للتغيير. وقد رعت بولندا مواهبها من خلال نظام تعليمي قوي لا يزال يواصل التطور. فبينما حافظت بولندا على تعليم ابتدائي وثانوي فعال، قامت بالتوسع في قطاع التعليم العالي الذي يضم الآن أكثر من 350 جامعة وكلية.

وتحتل بولندا المرتبة 23 في مؤشر رأس المال البشري الصادر عن البنك الدولي، والمرتبة 24 في مؤشر رأس المال البشري لجداول "بن" العالمية، وهي تحقق أداء أعلى من المتوسط في برنامج منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي لتقييم الطلاب دوليا، متجاوزة متوسط الاتحاد الأوروبي في جميع هذه المقاييس. ويمد التعليم القطاع الخاص بالمتخصصين كما يوفر للمؤسسات العامة قوة عاملة جديدة تتمتع بالكفاءة.

والرمز الذي يُبرز سمات التحول في بولندا هو انضمامها إلى المنظمات الدولية: منظمة التجارة العالمية، ومنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، والأهم من ذلك، منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي. فقد ضمن الانضمام إلى هذه المؤسسات اندماج بولندا في المجتمع عبر الأطلسي، وجذب الاستثمار، وتسهيل نقل التكنولوجيا. وكانت عضوية الاتحاد الأوروبي، على وجه الخصوص، محركا رئيسيا للتنمية، مما مكن بولندا من سد الفجوات الاقتصادية من خلال الاستفادة من السوق الموحدة وسياسات التماسك الأوروبية.

آلة التقارب

كان نجاح بولندا مدفوعا بالاستثمار وتوسع السوق من خلال التصدير. وقد عزز موقعها القوي داخل المجتمع الغربي جاذبيتها للاستثمار الأجنبي المباشر بشكل كبير. فبين عامي 2004 و2023، جذبت بولندا أكثر من 310 مليارات دولار من الاستثمارات الأجنبية، أي ما يقرب من نصف إجمالي الدول الثماني التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004. ويؤدي الاستثمار الوافد دورا مزدوجا: سد فجوة رأس المال في بولندا، وتسهيل نقل التكنولوجيا وخلق فرص العمل.

ويمثل اندماج بولندا في آلية التقارب التابعة للاتحاد الأوروبي إثباتا لنظرية الميزة النسبية. فالوصول إلى السوق الموحدة أتاح لبلدنا التوسع في التجارة، والتخصص، وتحسين الكفاءة الاقتصادية بشكل كبير. ومنذ الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، زادت صادرات بولندا من السلع والخدمات بنحو 3,5 مرة. كذلك حققنا تحسنا مطردا في مستوى التطور التكنولوجي. وقد عززنا تفوقنا في قطاع سلع التكنولوجيا المتوسطة وحققنا فائضا ثابتا في صادرات الخدمات، وكان هذا مدفوعا في جانب منه بجهود المتخصصين العاملين في كل من الشركات المحلية المنشأة حديثا والشركات متعددة الجنسيات. ويقِّدر أحد أبرز مراكزنا الفكرية الاقتصادية، وهو المعهد الاقتصادي البولندي، أن التكامل الأوروبي قد دعم إجمالي الناتج المحلي لبولندا بنسبة 40% مقارنة بسيناريو يفترض أننا لم ننضم قط إلى الاتحاد الأوروبي.

كذلك غذى التعليم والتخصص قفزة بولندا الرقمية. فقد كنا من أوائل المتبنين لأحدث التكنولوجيات والبنية التحتية للشبكات، مثل خدمة الإنترنت بتقنية الشبكات عريضة النطاق. وقد قفز القطاع المالي، بعد أن طور أنظمة تكنولوجيا المعلومات بعد عقود من نظرائه الغربيين، إلى حلول حديثة دون المرور بعقبات موروثة. وتقود الدولة البولندية الطريق نحو التحول الرقمي للخدمات العامة؛ فهي تقدم بطاقات هوية رقمية، وخدمات تقديم الإقرارات الضريبية آليا، وخدمات حكومية متنوعة أخرى عبر الإنترنت.

إن أوروبا في حاجة إلى إلغاء القيود التنظيمية وتحقيق وفورات الحجم قبل كل شيء".
تحديات جديدة

وبينما نغلق فجوة الدخل، تواجه بولندا تحديات جديدة: تحول الطاقة، وتطوير سوق رأس المال، والارتقاء بالتطور التكنولوجي. ويجب علينا أيضا تعزيز الأمن في ظل غزو روسيا لأوكرانيا. ويمثل هذا تحولا جذريا مقارنة بالثلاثين عاما الماضية، حين استفادت بولندا من مكتسبات السلام إلى جانب قوتها الداخلية.

ومع تحول البلد إلى قوة إقليمية، فإن دور بولندا في الاتحاد الأوروبي يتطور أيضا مع تحولها من متلقٍ خالص لأموال الاتحاد إلى بلد يتولى دورا ماليا متعاظما بالتدريج ضمن ميزانية الاتحاد الأوروبي مع المساهمة في الوقت نفسه بصورة نشطة في عمل السوق الموحدة من خلال التجارة. وقد تجاوزنا الصين كسوق تصدير للمنتجات الألمانية؛ كما تزود الصناعة البولندية جميع أنحاء أوروبا بالسلع. وهناك تشابه متزايد بين التحديات التي تواجه بولندا وتلك التي تواجه الاتحاد الأوروبي. وهناك ثلاثة منها تستحق اهتماما خاصا: ضمان ألا تشكل أوجه الجمود في أوروبا قيدا على النمو الاقتصادي؛ وإدارة تحول الطاقة بحكمة؛ ومواصلة التعاون للتصدي للتحديات الأمنية، التي يمثل إنفاق بولندا على الدفاع لمواجهتها- وهو الأكبر بين دول الناتو نسبة إلى إجمالي الناتج المحلي- أمرا بالغ الأهمية.

وتحتاج أوروبا في المقام الأول إلى إلغاء القيود التنظيمية وتحقيق وفورات الحجم. فقد كانت السوق الموحدة عملا ناجحا -كما يتضح من أداء التصدير الرائع الذي حققته بولندا- لكنها لا تزال غير مكتملة. ومن أكبر الحواجز التي تواجه الاتحاد الأوروبي ما يفرضه الاتحاد على نفسه من قيود. فوفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي، تعادل الحواجز غير الجمركية داخل السوق الموحدة تعريفة جمركية بنسبة 44% على السلع الصناعية و110% على الخدمات. ودون سوق موحدة بحق، لا يمكن للشركات الأوروبية التوسع، وتظل الابتكارات المحلية محصورة داخل الحدود الوطنية. وهذه إمكانات يجب أن تستغل.

وعلاوة على ذلك، من الضروري تنفيذ تحول الطاقة بصورة صحيحة. وفي هذا السياق، تمثل إزالة الكربون أولوية وستظل كذلك. غير أنه من الضروري معالجة تفاوت أسعار الطاقة مقارنة بالولايات المتحدة والصين. إذ تواجه الصناعة الأوروبية أسعار كهرباء وغاز تصل إلى ثلاثة أضعاف الأسعار لدى شركائنا التجاريين الرئيسيين. ويمثل تحول الطاقة ضرورة بيئية وفرصة اقتصادية في آن واحد، نظرا للمنافع غير المباشرة التي تتحقق من تقليل التلوث والميزة التنافسية الناتجة عن سلسلة قيمة الصناعة النظيفة.

وفوق كل ذلك، بدأت أوروبا تستعيد ثقتها في المشروع الأوروبي. فالتكامل الأوروبي في عهد أديناور وشومان ودي غاسبيري كان مسعى غيّر وجه العالم. لقد كان نقلة نوعية تاريخية تحققت بفضل قادة يتمتعون برؤية تجاوزت قيود زمنهم ومصالحهم قصيرة الأجل. غير أن التردد والتشرذم في الآونة الأخيرة أديا إلى إبطاء جهود التكامل. ولا تزال المصالح الضيقة تعرقل بعض المبادرات الرامية إلى تعميق التكامل. كذلك فإن المخاوف بشأن التمويل المشترك تمثل عائقا أمام العمل البحثي المتعلق بأحدث التكنولوجيات على نطاق مماثل لمشاريع وكالة ناسا ووكالة المشروعات البحثية الدفاعية المتقدمة في الولايات المتحدة. ولا تزال أوجه عدم الاتساق التنظيمي بين البلدان تفرض تحديات أمام القطاع الخاص.

غير أن التيار بدأ يتحول. فأوروبا، بعد صحوتها الجغرافية-السياسية، بدأت تدرك الحاجة إلى موجة جديدة من التكامل الاقتصادي، ومعها تنظيم ذكي وقوانين مبسطة لإحياء روح الازدهار التي طالما ميزت نمط الحياة الأوروبي. وأنا متفائل. فالتوصل إلى اتحاد أوروبي تنافسي وآمن ليس أمرا ممكنا وحسب، بل هو قريب المنال أيضا. والطريقة التي تكيف بها مواطنو بولندا مع التغيرات الجغرافية-السياسية منذ 35 عاما ينبغي أن تلهمنا جميعا. فالتغيير الإيجابي الكبير ممكن حتى في أوقات الاضطرابات العالمية. وحكومات الاتحاد الأوروبي تتخذ الاستعدادات اللازمة لنهوض الاقتصاد الأوروبي.

أندريه دومانسكي يشغل منصب وزير مالية بولندا.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.