5 min (1403 words) Read
اليورو الرقمي حماية للاستقرار النقدي، ودرء لهيمنة الاحتكارات الخاصة على المدفوعات، ورمز قوي للوحدة الأوروبية

وراء مشروع اليورو الرقمي يكمن دافع بسيط: ضمان احتفاظ الفرد في العالم الرقمي بخيار أداء المدفوعات أو تلقيها بنقود البنك المركزي. ومن شأن استحداث النقود الرقمية كأداة مكملة للنقد الملموس أن يدعم تحديث النظام النقدي التقليدي المزدوج الذي يسمح باستخدام النقود والودائع المصرفية كواسطة للتبادل. 

وقد ساهم تطور النظام النقدي المزدوج على مدار الثلاثمائة سنة الماضية في إرساء أساس قوي لعمليات النظام المالي الأوسع نطاقا، وتمكين البنوك المركزية من تحقيق استقرار الأسعار بفعالية. وفي حين يمكن وضع نظريات حول النظم النقدية البديلة التي تؤدي فيها نقود البنك المركزي دورا في قطاع الجملة فقط، فإن الحكمة تقتضي الحفاظ على دورها في قطاع التجزئة، بما في ذلك من خلال استحداث اليورو الرقمي. 

وتقع على عاتق البنوك المركزية مهمة حماية الاستقرار النقدي تحت أي ظرف. ويستدعي ذلك اتباع منهج حذر واستشرافي في الوقت نفسه، بحيث لا يأخذ في الاعتبار السيناريوهات الأساسية فقط وإنما المخاطر بعيدة الاحتمال أيضا الناتجة عن التطورات المستقبلية للنظام النقدي. وسيحد اليورو الرقمي من احتمالات النتائج الاقتصادية المعاكسة في المستقبل، كما سيضمن قدرة النظام النقدي على الصمود في عالم متزايد الاعتماد على الأدوات الرقمية. 

وفي السابق، كان لنقود البنك المركزي دور حيوي في الحفاظ على الثقة في قابلية تحويل نقود البنوك التجارية إلى نقود أساسية. وفي حين أن قابلية التحويل أمر مسلم به إلى حد كبير، فإنه من غير الواضح ما إذا كان النظام النقدي المزدوج سيظل محافظا على استقراره بالضرورة إذا ما فقدت قابلية التحويل إلى نقد ملموس أهميتها في ظل التحول الرقمي الجاري ولم يوفر النظام خيار النقد الرقمي.

القوة الاحتكارية

تبدو آثار الانتشار الشبكي واضحة للغاية على أدوات الدفع مقارنة بالخدمات الأخرى، حيث تكتسب المزيد من القيمة مع تزايد أعداد مستخدميها. وهذا هو أحد الأسباب في أن استخدام نقود البنك المركزي في أداء المدفوعات يُحَسِّن من كفاءة الاقتصاد. فهو يحد من نطاق استغلال أنظمة الدفع التجارية للقوة الاحتكارية عبر فرض رسوم بالغة على المستخدمين. ومع زيادة حصة المعاملات الرقمية، يمكن لخيار أداء المدفوعات باليورو الرقمي أن يحد من القوة الاحتكارية المحتملة للشركات التي تحتل مكانة مركزية في شبكات الدفع الخاصة.

وعلاوة على ذلك، فإن إتاحة نقود البنك المركزي للجمهور تمنحهم بديلا موثوقا عن استخدام نقود البنوك التجارية في بعض أنواع المعاملات حال وقوع اضطرابات في النظام المصرفي التجاري نتيجة مشكلات فنية أو هجمات سيبرانية. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل صناع السياسات يرغبون في استحداث يورو رقمي قابل للاستخدام على شبكة الإنترنت وخارجها.

ويذهب البعض إلى أن أحد المناهج البديلة لمواكبة النظام النقدي للعصر الرقمي هو تشجيع العملات الرقمية المستقرة التي تتولى جهات الوساطة الخاصة إصدارها وتشغيلها. غير أن أفضل تفسير لدور العملات الرقمية المستقرة هو أنها تهدف إلى توسيع نطاق عالم النقود الخاصة - باعتبارها بديلا آخر للودائع المصرفية - أكثر منها بديلا حقيقيا لنقود البنك المركزي. فالقيمة المستقرة للعملات الرقمية المستقرة مقابل العملات التقليدية ليست ثابتة (بعكس خصوم البنك المركزي). حتى المحافظ الداعمة عالية السيولة ليست ضمانا لقابلية تحويل العملات الرقمية المستقرة في جميع السيناريوهات.

وعلى العكس من ذلك، فإن اليورو الرقمي محكم التصميم يبشر بتحديث النظام النقدي المزدوج دون زعزعة استقرار المؤسسات المالية أو تعطيل تنفيذ السياسة النقدية أو آلية انتقال آثارها. ومن الخصائص الأخرى أن المعايرة الملائمة للحدود على حيازات اليورو الرقمي ستتيح للأفراد النقد الرقمي الكافي لإجراء المعاملات مع منع التدفقات الخارجة المفرطة من البنوك التجارية أو التوسع الضخم في الميزانية العمومية للبنك المركزي.

ونظرا لأن المستخدمين سيمكنهم فتح حسابات باليورو الرقمي عبر بنوكهم في الأساس (أو مقدمي خدمات الدفع الإلكتروني الآخرين)، سيضمن ذلك استمرار الترابط الوثيق بين نقود البنك المركزي ونقود البنوك التجارية. وإذا التزمت البنوك ومقدمو خدمات الدفع الإلكتروني الآخرون بإيلاء العناية الواجبة في التحقق من هوية العملاء، سيمكن الحفاظ على أعلى درجات الخصوصية دون اطلاع البنك المركزي على بيانات حسابات الأفراد.

إذا التزمت البنوك ومقدمو خدمات الدفع الإلكتروني الآخرون بإيلاء العناية الواجبة في التحقق من هوية العملاء، سيمكن الحفاظ على أعلى درجات الخصوصية دون اطلاع البنك المركزي على بيانات حسابات الأفراد.
توحيد الأسواق المشتتة

يقدم اليورو الرقمي مزايا إضافية لمنطقة اليورو باعتبارها اتحادا نقديا متعدد البلدان. وهناك عدة أسباب لذلك، منها أن نظام الدفع بمنطقة اليورو يتسم بدرجة عالية من التشتت عبر الحدود الوطنية. فعادة ما يتعين على العملاء الاعتماد على بطاقات أو محافظ إلكترونية من مقدمي خدمات غير أوروبيين لأداء المدفوعات عبر منطقة اليورو. لذلك، فبإلزام مقدمي الخدمات بقبول اليورو الرقمي، ستساعد آثار الانتشار الشبكي الفورية في توحيد السوق المشتتة في الوقت الحالي.

كذلك، سيساهم اليورو الرقمي في خفض التكاليف التي يتحملها التجار والشركات من خلال توفير بنية تحتية شبكية لنظام مدفوعات يخدم المنطقة ككل على أساس غير ربحي. وسيمنحهم أيضا قوة أكبر للتفاوض مع شبكات البطاقات الدولية على شروط المعاملات الشخصية والتجارة الإلكترونية. وبذلك، يبشر اليورو الرقمي بتسهيل قيام نظام مدفوعات سريع على مستوى المنطقة عند نقطة التفاعل بين العملاء والتجار. وفي ظل تعارض الحوافز بين مختلف مشغلي نظم الدفع الوطنية القديمة، لا يرجح قيام نظام مدفوعات سريع لخدمة المنطقة ككل عند نقاط التفاعل بدون اليورو الرقمي.

كذلك، سيتيح اليورو الرقمي أساسا مهما لابتكارات التكنولوجيا المالية عبر القارة. فوجود منصة موحدة على مستوى أوروبا سيسمح لمقدمي الخدمات من القطاع الخاص بالابتكار مع الاستفادة من وفورات الحجم التي تتيحها شبكة اليورو الرقمي الأساسية، مما يحد في نهاية المطاف من التكاليف على المستهلكين والشركات على حد سواء.

وتحديدا، فبربط العملاء والتجار عبر منطقة اليورو من خلال نظام حسابات باليورو الرقمي، سيمكن لمقدمي خدمات البطاقات والمحافظ الإلكترونية التركيز على تقديم خدمات دفع إضافية بينما تنتقل المدفوعات الأساسية عبر شبكات نظام اليورو الرقمي. كذلك، فإن الفصل بين العمليات الأساسية لنظام المدفوعات (شبكة اليورو الرقمي) وتقديم الخدمات الإضافية يقلص من خطر حبس الابتكار — عندما تقوم إحدى شبكات الدفع الخاصة التي تتمتع بميزة تكنولوجية مؤقتة بكبح الابتكارات اللاحقة لتحتفظ باليد العليا.

رمز للوحدة

إيجازا لما سبق، فإن دور نقود البنك المركزي في مجال التجزئة هو جزء لا يتجزأ من الأسس السيادية للنظام النقدي. وتحديدا، يستقي النظام النقدي تفرده وفعاليته واستقراره من السيادة الوطنية (أو، في حالة منطقة اليورو، السيادة المشتركة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي). ويشمل الدور النقدي للكيان السيادي إرساء القواعد المؤسسية للنظام النقدي (بما في ذلك تعريف العملة القانونية وإنفاذها)، والحفاظ على انضباط الميزانية اللازم لضمان فصل السياسة النقدية عن هيمنة المالية العامة، وتفويض المهام النقدية المختلفة إلى البنك المركزي.

ودور نقود البنك المركزي في مجال التجزئة يحافظ على العلاقة النقدية المباشرة بين الكيان السيادي والمواطن، ويرسخ في وجدان المجتمع الارتباط الوثيق بين الاستقرار النقدي والسيادة. وهذا الاعتبار مهم في السياق الأوروبي خصوصا، حيث يُنظَر إلى العملة الموحدة باعتبارها آلية حاسمة لتعزيز التكامل الاقتصادي والسياسي بين البلدان الأعضاء. وبخلاف أدواره الاقتصادية والنقدية، فإن اليورو رمز مهم للوحدة الأوروبية، وبالتالي يتعين الحفاظ عليه في العصر الرقمي.

فيليب لين كبير الاقتصاديين وعضو المجلس التنفيذي في البنك المركزي الأوروبي.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.