منظورات إقليمية
تأخر إصلاح ترتيبات الإقراض الذي يقدمه الصندوق للبلدان متوسطة الدخل
عند النظر إلى التحديات الاقتصادية والتنموية الماثلة أمام الاقتصادات النامية في مواجهة أزمة تغير المناخ، هناك اعتقاد غالب بأن الديون، في أحسن الفروض، هي أحد عوامل التعقيد، وفي أسوأها، مصدر الكثير من مشكلاتنا. وتوجد أسباب وجيهة لهذا التصور. فالدين العام الآخذ في الازدياد في العالم النامي - وما يصاحبه من فواتير الفائدة المرتفعة للغاية - يؤدي إلى تحويل الأموال العامة عن برامج الصحة والتعليم التي تعاني بالفعل من نقص التمويل. وهو ينطوي أيضا على تهديد بدفع المزيد من البلدان إلى حالة المديونية الحرجة مباشرة، وإعادة المزيد من الأشخاص إلى هوة الفقر.
وعلى الرغم من ذلك، لا مفر من حقيقة أن الدين سيظل عنصرا حيويا من عناصر تمويل احتياجات الاقتصادات النامية لتحقيق أهدافها للتنمية المستدامة - ولا سيما الصمود في مواجهة تغير المناخ - وتحقيق إمكاناتها في مجال التنمية الاقتصادية بصفة أعم. ومن ثم، يتمثل التحدي في "تحسين" عمليتي الإقراض والاقتراض على حد سواء. ما معنى هذا؟
يعني ذلك بالتأكيد ضمان الانضباط المالي المستدام باعتباره إحدى ركائز الاقتراض العام. ولكنه يعني أيضا تجنب الدين الذي سيثبت على الأرجح تعذر القدرة على تحمله. وفي حين تتحدد استدامة القدرة على تحمل الدين بوجه عام بناء على عدة عوامل، تعلِّمنا التجارب السابقة أن معدل النمو الاقتصادي هو أهم العوامل لدفع ديناميكيات الدين. وتوجد قاعدة بسيطة تساعد على تحديد متى يكون من غير المحتمل أن تثبت آجال استحقاق الاقتراض الجديد أنها قابلة للاستمرار بمرور الوقت، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالتكلفة، وهي ببساطة أنه لا يمكن اعتبار أسعار الفائدة التي من المحتمل أن تتجاوز معدل النمو الاسمي في المستقبل قابلة للاستمرار. وكلما زاد ظهور هذه الأسعار في حافظة الدين العام، ازداد احتمال الوصول إلى مرحلة المديونية السيادية الحرجة في المستقبل.
إطار معيب
على الرغم من وجود تركيز كبير على أسعار الفائدة المرتفعة للغاية التي يدفعها بعض الاقتصادات النامية على إصدارات سندات يوروبوند منذ بداية عام 2014، فإن مشكلة تكاليف الاقتراض المرتفعة التي لا يمكن استدامة القدرة على تحملها واضحة أيضا في الإقراض الذي يقدمه القطاع الرسمي. وفي الحقيقة، أماطت الزيادة الأخيرة في أسعار الفائدة العالمية اللثام عن وجود إطار معيب للإقراض الذي يقدمه صندوق النقد الدولي للبلدان متوسطة الدخل لم يعد يدعم استدامة القدرة على تحمل الدين. وهذا الإطار في حاجة ماسة إلى إصلاح.
ولنبدأ بالقضية المحورية وهي التكلفة. في بداية الألفية، استُحدِث نظام الرسوم الإضافية على جميع عمليات الإقراض من صندوق النقد الدولي للبلدان متوسطة الدخل عن طريق حساب الموارد العامة، الذي يشمل اتفاقات الاستعداد الائتماني، وتسهيل الصندوق الممدد، وأداة التمويل السريع. ويتكون هيكل الرسوم الإضافية من رسم إضافي قائم على المستوى بنسبة 2% على الإقراض من حساب الموارد العامة الذي يتجاوز 187,5% من حصة العضوية في الصندوق، ورسم إضافي آخر "قائم على المدة" بنسبة 1% على جزء الائتمان المقدم من حساب الموارد العامة فوق هذا الحد الذي يكون قائما لأكثر من 36 شهرا (أو 51 شهرا في حالة تسهيل الصندوق الممدد).
وتجدر الإشارة إلى أن صندوق النقد الدولي استحدث هذه الرسوم الإضافية عندما كان يحاول إخماد النيران التي أشعلتها أزمات الديون الأولى في الأسواق الصاعدة، بما في ذلك عن طريق الصرف من رأسماله الخاص. وتمثل الهدف الأساسي من الرسوم الإضافية الجديدة في الحيلولة دون استنزاف الإقراض الكبير ولفترة طويلة موارد الصندوق، خاصة بين المقترضين السياديين الأعلى تصنيفا في الأسواق الصاعدة. وقد نجح العمل بنظام الرسوم الإضافية، وسرعان ما تمكنت هذه البلدان من استعادة التصنيف الاستثماري بعد انتهاء الأزمة. وبعد سنوات، نجح هذا النهج مرة أخرى: فبلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي التي اضطُرت للاقتراض من الصندوق إبّان الأزمة المالية العالمية تمكنت من السداد المبكر لالتزاماتها للصندوق فور انحسار أسوأ مراحل مشكلات عدم الاستقرار، وذلك بفضل عمق أسواق رأس المال المحلية.
غير أن العالم قد شهد تغيرا جذريا على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية. بداية، تحول صندوق النقد الدولي من امتلاك أرصدة وقائية بلغت 6,2 مليار دولار في إبريل 1999 إلى 33 مليون دولار تقريبا في إبريل 2024. وقد نجح أيضا في صنع محور توجد حاجة ماسة إليه، عن طريق التوسع التدريجي في دوره بوصفه مقرض الملاذ الأخير ليصبح شريكا لبعض البلدان الأفقر والأكثر هشاشة في العالم في وقت تعرضت فيه قدرتها على الحصول على السيولة لضرر شديد.
بالإضافة إلى ذلك، زاد حجم الإقراض الذي يقدمه الصندوق. وفي الواقع، لم تعد نسبة 187,5% من الحصة تشكل قيمة كبيرة، فمنذ إبريل من هذا العام، حصل 21 بلدا من البلدان ذات الدخل المتوسط على قروض من الصندوق تجاوزت هذا المستوى. ومقارنة بعِقد مضى، انخفض متوسط نصيب الفرد من الدخل في البلدان المتعاملة مع تسهيل الصندوق الممدد بمُعامِل قدره 4.
وعلى الرغم من ذلك، لم يطرأ أي تغيير على نظام الرسوم الإضافية في الصندوق، بل ساهم في وضع المقترضين السياديين الذين يعانون من الهشاشة في مواجهة مباشرة مع أسعار الفائدة العالمية المتزايدة بكامل وطأتها، رغم أن الصندوق يتمتع حاليا بمستوى جيد من رأس المال ولا يعتمد على الاقتراض من الأسواق لتمويل ترتيبات الإقراض.
نظام الرسوم الإضافية
بدءا من يونيو من هذا العام، سيكون الحد الأدنى لسعر الفائدة الكامل مستحق الدفع على المبالغ المنصرفة من حساب الموارد العامة (وهو يشمل المبالغ المنصرفة من اتفاق الاستعداد الائتماني، وتسهيل الصندوق الممدد، وأداة التمويل السريع) قد ارتفع إلى 5,1% سنويا، مع سداد الكيانات السيادية 7,1% على الجزء من مسحوباتها الذي يتجاوز نسبة 187,5% من الحصة. أما التزامات حساب الموارد العامة القائمة لثلاث سنوات أو أكثر (أو أربع سنوات في حالة تسهيل الصندوق الممدد - أقل من نصف مدة أجل الاستحقاق النهائي) فقد سجلت اليوم سعر فائدة قياسي بلغ 8,1%. ولا يمكن لصندوق النقد الدولي القول إن برامجه للإقراض تتمتع باستدامة القدرة على تحمل الدين في الأصل عندما لا يمكن اعتبار الإقراض الذي يقدمه للبلدان متوسطة الدخل مستداما.
وهذه مشكلة يجب على صندوق النقد الدولي التصدي لها. ولا يمثل تقديم حوافز للمقترضين السياديين لسداد القروض للصندوق خطأ في حد ذاته، ولكنه خطأ في عالم لا يتوافر فيه لمعظم المقترضين من حساب الموارد العامة قدرة يعوَّل عليها للحصول على موارد بديلة لتمويل مستدام. ومن ثم، فإن نظام الرسوم الإضافية بحاجة إلى إصلاح عاجل - سواء من خلال إصلاح جذري شامل يتضمن حدودا قصوى تأخذ في الحسبان دورة أسعار الفائدة، أو يُفضَّل عن طريق إلغائها بشكل كامل.
إلا أن التكلفة ليست المجال الوحيد في الإقراض الذي يقدمه صندوق النقد الدولي الذي يتطلب إصلاحا عاجلا. فأجل القروض من الأمور المهمة أيضا. ولنأخذ على سبيل المثال تسهيل الصندوق الممدد - وهو أداة مصممة للتعامل مع اختلالات ميزان المدفوعات بسبب مواطن الضعف الهيكلية في الاقتصاد. ومن المقبول على نطاق واسع أن الإصلاح الهيكلي مهمة معقدة يستغرق تنفيذها وقتا، وتتطلب سنوات لتؤتي ثمارها. إلا أن لدينا في هذا التسهيل أداة إقراض تصرف المبالغ على مدى ثلاث أو أربع سنوات فقط، ويجب سدادها في سبع سنوات (على أساس متوسط مرجح). وأي تسهيل مقيد بشدة لا يناسب ببساطة دعم الإصلاح الهيكلي في وقت حدوث "أزمات متعددة" وفي ضوء التأثيرات المدمرة المتزايدة لأزمة تغير المناخ.
برامج دائمة
لا عجب، إذن، من أن كثيرا من البلدان متوسطة الدخل أصبحت أسيرة برامج دائمة، أي الاقتراض من الصندوق لا لشيء سوى للسداد للصندوق. وهذا أمر سيء للمقترضين السياديين، وليس جيدا للصندوق، وأيضا ليس جيدا للأشخاص الذين من المفترض أن يخدمهم الصندوق.
لقد مرت خمس وأربعون سنة منذ آخر إصلاح لتسهيل الصندوق الممدد في عام 1979. والحقيقة أن تقديم فكر جديد من إدارة ومساهمين، نعرف أنهم يتسمون بالتفاني والقدرة، بشأن دعم صندوق النقد الدولي البلدان متوسطة الدخل قد تأخر كثيرا.
ولذلك، فإنه من حسن الحظ أن صندوق النقد الدولي، في ظل قيادته الحالية، قد أظهر بالفعل في السنوات الأخيرة قدرة على طرح فكر جديد وابتكاري، وغالبا ما يسبق الآخرين في التحرك. وقد ظهر هذا الأمر في سرعة تنفيذ أداة التمويل السريع والتسهيل الائتماني السريع عقب تفشي جائحة كوفيد-19 وما تلاها من توزيع حقوق سحب خاصة بقيمة 650 مليار دولار، وهو ما يمثل رقما قياسيا. وفي الآونة الأخيرة، شهدنا استحداث تسهيل الصلابة والاستدامة - وهو تسهيل ممول عن طريق إعادة توجيه جزء من حقوق السحب الخاصة الجديدة ومصمم للمساعدة في تمويل الصمود في مواجهة تغير المناخ والتكيف معه للبلدان التي لديها بالفعل ترتيبات الشريحة الائتمانية العليا مع الصندوق. ومن الأهمية بمكان توضيح أن أجل الاستحقاق النهائي لهذا التسهيل الجديد يبلغ 20 عاما، وهو لا يتضمن رسوما إضافية.
ومع مواجهة الأزمات المتعددة في بداية القرن الحادي والعشرين، تحتاج البلدان متوسطة الدخل ترتيبات إقراض ملائمة للغرض المطلوب. وقد حان الوقت لكي يحوِّل صندوق النقد الدولي انتباهه إلى تنفيذ إصلاح أساسي في ترتيبات الإقراض القائمة للبلدان متوسطة الدخل.
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.