يسجل التضخم في بعض الاقتصادات معدلات متصاعدة بأسرع وتيرة منذ أربعة عقود، في الوقت الذي أدى فيه نقص المعروض في أسواق العمل إلى زيادة ارتفاع الأجور. وتسبب هذا في إثارة المخاوف بشأن إمكانية أن تصبح هذه الأوضاع داعمة لذاتها فتفضي إلى دوامة من الأجور والأسعار المتزايدة – في حلقة مستمرة طويلة الأمد يؤدي فيها التضخم إلى ارتفاع نمو الأجور، مما يغذي بدوره زيادة ارتفاع التضخم.
ويبحث أحد الفصول التحليلية في أحدث إصداراتنا من تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" ديناميكية الأجور في الفترة الأخيرة، كما يتناول احتمالات حدوث هذه الدوامة من الأجور والأسعار المتزايدة، فيخلص إلى أن مخاطر حدوثها محدودة في المتوسط – حتى الآن. وهناك ثلاثة عوامل تتضافر معا لاحتواء المخاطر: أن الصدمات الأساسية التي يتعرض لها التضخم تأتي من خارج سوق العمل، وأن الأجور الحقيقية المتراجعة تساعد على خفض ضغوط الأسعار، وأن البنوك المركزية تجري تشديدا حادا للسياسة النقدية.
نظرة على التاريخ
ولكي نفهم هذه الديناميكيات بصورة أفضل، حددنا 22 موقفا تعرضت لها الاقتصادات المتقدمة على مدار الخمسين عاما الماضية وتتشابه مع الأوضاع التي كانت سائدة في عام 2021 حين كان تضخم الأسعار في ارتفاع مستمر، ونمو الأجور بالموجب، ولكن الأجور الحقيقية ومعدل البطالة كانا ثابتين أو متراجعين. ولم تؤد هذه الحالات، في المتوسط، إلى حدوث دوامات أجور وأسعار.
وبدلا من ذلك، انخفض التضخم في أرباع العام اللاحقة وارتفعت الأجور الاسمية بالتدريج، مما ساعد على تعافي الأجور الحقيقية.
وبالرغم من أن الصدمات التي تضرب اقتصادات العالم غير معتادة، فإن هذه النتائج تحمل بعض التطمين إزاء ندرة حدوث هذه الدوامات المستمرة. غير أن ذلك ينبغي ألا يكون باعثا على التراخي من جانب صناع السياسات – فهناك فروق بين الحالات، وبعضها ينتهي بنتائج أسوأ من البعض الآخر. فالتضخم في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ظل يرتفع باستمرار بينما هبطت الأجور الحقيقية لبعض الوقت بعد عام 1979، حين تعرض الاقتصاد لمزيد من الارتفاعات الحادة في أسعار النفط. ولم يتغير مسار التضخم إلا حين رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بصورة حادة.
دور التوقعات
كيفية تشكيل التوقعات تؤثر كثيرا في ديناميكيات الأجور والأسعار وفي الإجراءات التي ينبغي أن يتخذها صناع السياسات بعد الصدمات التضخمية. وقد أصبحت توقعات التضخم أكثر أهمية في تفسير ديناميكية الأجور على مدار النصف الثاني من عام 2021، طبقا لتحليل تجريبي.
ولدراسة كيفية تأثير التوقعات على الاقتصاد، استخدمنا تحليلا قائما على نموذج، وقمنا بمعايرته ليعكس الأوضاع الاقتصادية في النصف الأول من هذا العام مع استخدام مسار سعر الفائدة الرسمي باعتباره عاملا مُعطى.
وبناء عليه، فحين تتوقع الأعمال والأسر بقاء التضخم في المستقبل على حاله اليوم، يمكن أن يؤدي حدوث صدمة تضخمية إلى مطالبة العمالة بأجور أعلى لتعويض التضخم الأعلى المتصور حدوثه مستقبلا. وهذا النوع من عمليات التوقع ذات النظرة الخلفية – التي نشير إليها باسم "التوقعات التكيفية بالكامل" – يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع التضخم وبقائه أعلى من المستوى الذي يستهدفه البنك المركزي لفترة ممتدة حتى إذا لم تحدث صدمات سعرية إضافية.
وعلى العكس من ذلك، فحين تعكس توقعات الناس كل المعلومات الاقتصادية المتاحة – وهو ما يشار إليه باسم "التوقعات العقلانية" – فإن الأعمال والأسر تنظر إلى صدمة الأجور والأسعار باعتبارها مؤقتة، مما يؤدي إلى نمو الأجور وعودة التضخم سريعا إلى المستوى المستهدف وبقائه ثابتا في هذه الحدود.
وفي معظم الأماكن، تكمن الحقيقة في موضع بين هذين النقيضين، حيث تنظر الأعمال والأسر إلى ما حدث في الماضي (مع إعطاء وزن أكبر لما حدث في أرباع العام الأخيرة) لمعرفة هيكل الاقتصاد ووضع التوقعات، وهو ما يشار إليه بمصطلح "التعلم التكيفي". وفي هذه الحالة، يمكن أن يستغرق نمو الأجور والتضخم فترة أطول للعودة إلى هدف البنك المركزي مقارنة بما يستغرقه الأمر في حالة التوقعات العقلانية، ولكن الوتيرة تكون أسرع مقارنة بالوضع في ظل التوقعات التكيفية بالكامل.
وفي كل هذه الحالات، يغلب على الأجور الحقيقية الانخفاض مبدئيا عندما يتجاوز التضخم نمو الأجور، مما يساعد على موازنة جانب من الصدمة المدفوعة بالتكلفة التي أشعلت التضخم ويعمل على الحيلولة دون حدوث دوامة من الزيادات المتلاحقة في الأجور والأسعار. غير أن صدمات التضخم تبدأ من سوق العمل ذاته – كأن يحدث ارتفاع حاد غير متوقع في تقييس الأجور – وهو ما يمكن أن يخفف من آثار تراجع الأجور الحقيقية، إذ يدفع كلا من نمو الأجور والتضخم إلى الارتفاع لفترة أطول.
وفهم عملية التوقعات أمر ضروري بالنسبة لصناع السياسة النقدية. فحين تكون التوقعات أكثر اعتمادا على النظرة الخلفية، ينبغي أن يكون تشديد السياسة النقدية – بما في ذلك عن طريق الإفصاحات الواضحة من جانب البنك المركزي – أقوى وأكثر تركزا في بداية الاستجابة لصدمة التضخم.
ومن هذا المنطلق، تعتبر إجراءات التشديد التي قام بها الكثير من البنوك المركزية مؤخرا – والتي تمت معايرتها لتتوافق مع ظروف كل اقتصاد – أمرا مشجعا. فسوف تساعد على الحيلولة دون ترسخ التضخم المرتفع ومنع التضخم من الانحراف بعيدا عن الهدف لفترة بالغة الطول.
- هذه التدوينة تستند إلى الفصل الثاني في عدد أكتوبر 2022 من تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي"، بعنوان "ديناميكيات الأجور بعد كوفيد-19 ومخاطر دوامة الزيادات المتعاقبة في الأجور والأسعار." ومؤلفو التقرير هم سيلفي ألبريزيو، وخورخيه ألفاريز، وألكسندر بالدوينو سولاسي، وجون بلودورن (قائد الفريق)، وآلان ديزيولي، ونيلز-جاكوب هانسن، وفيليب وينغندر، بدعم من يويو هوانغ وإفجينيا بوغاتشيفا.
*****
جون بلودورن يعمل نائبا لرئيس القسم المعني بتقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" في إدارة البحوث بالصندوق. وكان في السابق اقتصاديا أول في وحدة الإصلاحات الهيكلية بإدارة البحوث، وعضوا في فريق الصندوق المعني بمنطقة اليورو في الإدارة الأوروبية، كما ساهم أثناء عمله بدرجة "اقتصادي" في عدد من فصول تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي". وقبل انضمامه إلى الصندوق، كان زميلاً باحثاً لدراسات ما بعد الدكتوراه في جامعة أكسفورد ثم أستاذاً في جامعة ساوثهامبتون في المملكة المتحدة. وللسيد بلودورن أبحاث منشورة عن طائفة من الموضوعات المتعلقة بالتمويل الدولي، والاقتصاد الكلي، والتنمية. وهو حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا، بيركلي.