يجب توخي الحذر عند تطويع الذكاء الاصطناعي لتحقيق استفادة للفقراء، وذلك ما توضحه بحوث أُعدت في كينيا وسيراليون وتوغو
بينما يعيد الذكاء الاصطناعي صياغة شكل الاقتصادات النامية، فإنه يثير مخاطر مألوفة تتمثل في تعطل العمل والمعلومات المضللة والرقابة - ولكنه يبشر أيضا بالكثير من الفوائد المحتملة. وتوضح الأمثلة في الآونة الأخيرة إلى أي مدى يمكن للتكنولوجيات التي تستند إلى الذكاء الاصطناعي توجيه المساعدات والائتمان على نحو أفضل، وزيادة القدرة على الحصول على خدمات تدريس ومشورة طبية مصممة خصيصا. إلا أن تحقيق التوازن بين هذه المخاطر والفرص يعني أكثر من مجرد توصيل التكنولوجيا الحالية وتشغيلها - فهو يتطلب ابتكارا وتطويعا على المستوى المحلي.
وقد نشأت معظم أوجه التقدم التي شهدها الذكاء الاصطناعي مؤخرا في بلدان غنية - وجرى تطويره في تلك البلدان من أجل المستخدمين المحليين باستخدام بيانات محلية. وعلى مدار السنوات الماضية، أجرينا بحوثا مع شركائنا في بلدان منخفضة الدخل، بالعمل على تطبيقات الذكاء الاصطناعي من أجل تلك البلدان والمستخدمين والبيانات. وفي مثل هذه البيئات، لن تنجح الحلول المستندة إلى الذكاء الاصطناعي إلا إذا كانت تناسب السياق الاجتماعي والمؤسسي المحلي.
في توغو، حيث استخدمت الحكومة تكنولوجيا تعلم الآلة لتوجيه المساعدات النقدية أثناء جائحة كوفيد-19، نجد أن تطويع الذكاء الاصطناعي ليناسب الظروف المحلية كان العامل الرئيسي لتحقيق نتائج ناجحة. فقد أعادت الحكومة توظيف التكنولوجيا المصممة في الأصل لتوجيه الإعلانات على شبكة الإنترنت لاستخدامها في مهمة تحديد أفقر الأشخاص المقيمين في البلاد. وباستخدام الذكاء الاصطناعي، عالج النظام بيانات واردة من الأقمار الصناعية وشركات الهواتف المحمولة لتحديد سمات الفقر - مثل القرى التي تظهر غير مطورة في التصوير الجوي، والمشتركين في خدمة الهاتف المحمول الذين لديهم أرصدة قليلة في هواتفهم. وساعد توجيه المساعدات استنادا إلى هذه السمات على ضمان وصول التحويلات النقدية إلى الأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إليها (راجع دراسة Aiken and others 2022).
ولم ينجح هذا التطبيق في توجو إلا لأن الحكومة عدلت هذه التكنولوجيا بحيث تلبي الاحتياجات المحلية، وذلك بالتعاون مع باحثين ومنظمات غير هادفة للربح. فقد أنشأوا نظاما لتوزيع المدفوعات عبر الهاتف المحمول نجح مع جميع المشتركين في خدمة الهاتف المحمول، وطوّعوا برمجيات تعلم الآلة المتاحة لتوجيه التحويلات النقدية، وأجروا مقابلات مع عشرات الآلاف من المستفيدين لضمان أن النظام يعكس التعريف المحلي للفقر. وحتى مع ذلك، لم يكن الحل المستند إلى الذكاء الاصطناعي مصمما ليكون دائما؛ فقد كان من المقرر التوقف عن استخدامه تدريجيا بعد انتهاء جائحة كوفيد-19.
وقد أثار البرنامج المستند إلى الذكاء الاصطناعي أيضا تخوفا آخر وهو أن الخوارزميات التي تعمل جيدا في المختبرات قد لا يمكن التعويل عليها عند استخدامها لاتخاذ قرارات مهمة على أرض الواقع. على سبيل المثال، في نظام لتوجيه المساعدات على غرار النظام المستخدم في توغو، يمكن للأشخاص تعديل سلوكهم ليصبحوا مستحقين للحصول على مزايا، وبهذا يقوضون قدرة النظام على توجيه التحويلات النقدية إلى الفقراء.
في مناطق أخرى من العالم، يُستخدم تعلم الآلة لتحديد استحقاق الحصول على قروض صغيرة، على أساس السلوك المتبع في استخدام الهاتف المحمول (راجع دراسة Björkegren and Grissen 2020). على سبيل المثال، حصل أكثر من ربع البالغين في كينيا على قروض باستخدام هواتفهم المحمولة. إلا أنه إذا كان من الأرجح أن تتم الموافقة على حصول الأشخاص الذين لديهم عدد أكبر من الأصدقاء على فيسبوك على قروض، فقد يفكر بعض مقدمي الطلبات في الإسراع بإضافة أصدقاء. في نهاية المطاف، يمكن أن يجعل هذا الأمر من الصعب على الأنظمة استهداف الأشخاص المقصودين.
وفي دراسة أُجريت بالتعاون مع مركز بوسارا في كينيا، وجدنا أن الناس يمكنهم التعلم وتعديل سلوكهم في استخدام الهواتف الذكية استجابة لهذه القواعد الخوارزمية (دراسة Björkegren, Blumenstock, and KnightK، تصدر قريبا). وأوضحنا إلى أي مدى تحسن أداء عملية تعديل إثبات المفهوم ليناسب الخوارزمية التي تتوقع هذه الاستجابات. على الرغم من هذا، ليس بمقدور التكنولوجيا وحدها التغلب على المشكلات التي تنشأ أثناء التطبيق؛ فجزء كبير من التحدي المتمثل في إنشاء هذه الأنظمة هو ضمان أنه يمكن التعويل عليها في الظروف الواقعية.
من ناحية أخرى، تتطلب بعض الأنظمة تعديلات قبل أن يمكن تحقيق الاستفادة منها. على سبيل المثال، يجب على المعلمين في الكثير من البلدان الأقل دخلا التعامل مع فصول بها أعداد كبيرة من الطلاب بموارد محدودة. وفي سيراليون، أطلق أحد الشركاء المحليين نظاما على أساس تجريبي لروبوت دردشة باستخدام الذكاء الاصطناعي لمساعدة المعلمين، يسمى "ذي تيتشر إيه آي TheTeacher.AI"، الذي يماثل نموذج الذكاء الاصطناعي ChatGPT، ولكنه معدَّل ليناسب المناهج الدراسية وطرق التدريس المحلية ويمكن الوصول إليه حتى وإن كان الاتصال بالإنترنت ضعيفا. في المرحلة التجريبية، لم يتمكن عدد كبير من المعلمين من صياغة أسئلة بطريقة تجعلهم يحصلون على إجابات مفيدة، إلا أن مجموعة صغيرة منهم بدأت استخدام النظام بصورة منتظمة ليساعدهم في مفاهيم عملية التدريس وإعداد الدروس وإنشاء مواد تعليمية لاستخدامها في الفصول (راجع دراسة Choi and others 2023). وتطلب الأمر تدريبا وتجريبا حتى تمكن المعلمون من استخدامه في الواقع العملي. وقد لا تظهر استخدامات الذكاء الاصطناعي بوضوح على الفور لأولئك الذين ينتظرون الحصول على مزايا، فاكتشاف الاستخدامات الكثيرة سيتوقف على التجربة والخطأ وتشارك التطبيقات التي تساعد في هذا الأمر.
حواجز التواصل
من المحتمل أن يكون استيعاب قدرات الذكاء الاصطناعي أصعب على الأشخاص في البلدان الأقل دخلا، حيث تتدنى مهارات القراءة والكتابة والحساب، ويكون المقيمون أقل إلماما بالبيانات الرقمية والخوارزميات التي تعالج هذه المعلومات. على سبيل المثال، اكتشفنا في تجربتنا الميدانية في نيروبي، كينيا، أنه من الصعب شرح خوارزميات بسيطة ذات أرقام سالبة وكسور للمقيمين من ذوي الدخل المنخفض. إلا أن فريقنا اكتشف طرقا أبسط لتوصيل هذه المفاهيم. فقد كان واضحا عندما استجاب الناس للخوارزميات أنهم استوعبوا المفهوم. إلا أنه لا يزال من الصعب فهم أنظمة الذكاء الاصطناعي المعقدة، حتى على الباحثين في هذه التكنولوجيا.
في الواقع، لا تتطلب بعض التطبيقات معرفة المستخدمين كيفية عمل الخوارزميات. على سبيل المثال، يمكن أن يفيد نظام توصيات نتفليكس للأفلام المستخدمين حتى وإن لم يفهموا الطريقة التي تختار بها الخوارزميات المحتوى الذي تظن أنه سيروق لهم. وبالمثل، في أزمة إنسانية ما، قد يرى صانعو السياسات أنه من المقبول استخدام خوارزمية "الصندوق الأسود" المبهمة، على غرار ما فعلته حكومة توغو لمواجهة جائحة كوفيد-19.
ومما لا شك فيه أن الشفافية أمر بالغ الأهمية في بعض الأحيان. فعند توجيه خدمات الحماية الاجتماعية في سياقات لا تنطوي على حالات طوارئ، يكون من الضروري شرح معايير الاستحقاق للمستفيدين المحتملين. غير أن القول قد يكون أسهل من الفعل؛ فقد أظهرت لنا عشرات المقابلات ومجموعات التركيز إلى أي مدى تختلف القواعد والقيم بشأن البيانات والخصوصية جذريا في سياق مثل توغو التي يغلب عليها الطابع الريفي عنها في البلدان الغنية، حيث الأنظمة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي أكثر انتشارا. على سبيل المثال، عبر عدد قليل من الأشخاص الذين تحدثنا معهم عن قلقهم من أن تطَّلع الحكومة أو الشركات على بياناتهم (وهو تخوف سائد في أوروبا والولايات المتحدة)، إلا أن الكثير من الأشخاص تساءلوا عما إذا كان يتم تشارك هذه المعلومات مع جيرانهم، وكيف يتم ذلك.
ومع شيوع استخدام الذكاء الاصطناعي على نحو أكبر، يجب أن يفهم الناس آثاره المجتمعية الأوسع نطاقا. فالذكاء الاصطناعي يمكن، على سبيل المثال، أن ينشئ صورا مثيرة غير صحيحة على الإطلاق ومكالمات روبوتية تحاكي أصوات البشر. وستؤثر هذا التغيرات السريعة على مدى وثوق الناس بالمعلومات التي يرونها على شبكة الإنترنت. وحتى سكان المناطق النائية يجب إبلاغهم بهذه الاحتمالات حتى لا يتعرضوا للتضليل - ولضمان أخذ مخاوفهم في الحسبان في عملية وضع القواعد التنظيمية.
إنشاء روابط
تستند حلول الذكاء الاصطناعي على البنية التحتية الرقمية المادية القائمة، من قواعد البيانات الضخمة على الخوادم، وكابلات الألياف الضوئية وأبراج الاتصالات الخليوية، إلى الهواتف المحمولة في أيدي الناس. وعلى مدار العقدين الماضيين، استثمرت الاقتصادات النامية بكثافة في ربط المناطق النائية بشبكات الاتصالات الخليوية والإنترنت، لترسي بهذا الأسس اللازمة لهذه التطبيقات الجديدة.
وعلى الرغم من أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تستفيد من البنية التحتية الرقمية، يمكن لبعضها الاستفادة بصورة أفضل من الموارد المتاحة. على سبيل المثال، يعاني عدد كبير من المعلمين في سيراليون من ضعف الاتصال بالإنترنت. ولأداء بعض المهام، قد يكون الحصول على أفكار من روبوت دردشة ثم التحقق من صحة الإجابة أسهل من جمع المعلومات من عدة مصادر على الإنترنت.
على الرغم من هذا، ستتطلب أنظمة الذكاء الاصطناعي استثمارا في البنية التحتية المعرفية، ولا سيما في الاقتصادات النامية، حيث تستمر فجوات البيانات ويقل تمثيل الفئات الفقيرة عما يجب من الناحية الرقمية. ولدى نماذج الذكاء الاصطناعي معلومات غير مكتملة عن احتياجات المقيمين الأقل دخلا ورغباتهم، وحالتهم الصحية، ومظهر الناس والقرى، وهيكل اللغات الأقل استخداما.
وقد يتطلب جمع هذه البيانات إدماج العيادات والمدارس والشركات في الأنظمة الرقمية لحفظ السجلات، وتقديم حوافز لاستخدامها، وإنشاء حقوق قانونية على ما ينتج من بيانات.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي صياغة أنظمة الذكاء الاصطناعي بما يتلاءم مع القيم والأوضاع المحلية. على سبيل المثال، قد تقترح أنظمة الذكاء الاصطناعي الغربية أن يستخدم المعلمون موارد عالية التكلفة، مثل السبورات البيضاء الرقمية أو عروض الشرائح الرقمية. ويجب تعديل هذه الأنظمة لتناسب المعلمين الذين يفتقرون إلى هذه الموارد. ويمكن للاستثمار في تنمية قدرات مطوري الذكاء الاصطناعي ومصمميه المحليين وتدريبهم أن يساعد في ضمان أن يعكس الجيل المقبل من الابتكار الفني القيم والأولويات المحلية على نحو أفضل.
ويبشر الذكاء الاصطناعي بالكثير من التطبيقات المفيدة للفقراء على مستوى الاقتصادات النامية. فالتحدي لا يكمن في الأحلام الكبيرة - فمن السهل تخيل إلى أي مدى يمكن أن تفيد هذه الأنظمة الفقراء - وإنما في ضمان أن تفي هذه الأنظمة باحتياجات الناس، وأن تنجح في العمل في أوضاع محلية، وألا تتسبب في ضرر.
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.
المراجع:
Aiken, Emily, Suzanne Bellue, Dean Karlan, Chris Udry, and Joshua E. Blumenstock. 2022. “Machine Learning and Phone Data Can Improve Targeting of Humanitarian Aid.” Nature 603 (7903): 864–70. https://doi.org/10.1038/s41586-022-04484-9
Björkegren, Daniel, and Darrell Grissen. 2020. “Behavior Revealed in Mobile Phone Usage Predicts Credit Repayment.” World Bank Economic Review 34 (3): 618–34. https://doi.org/10.1093/wber/lhz006
Choi, Jun Ho, Oliver Garrod, Paul Atherton, Andrew Joyce-Gibbons, Miriam Mason-Sesay, and Daniel Björkegren. 2023. “Are LLMs Useful in the Poorest Schools? theTeacherAI in Sierra Leone.” Paper presented at the Neural Information Processing Systems (NeurIPS) Workshop on Generative AI for Education (GAIED)
Björkegren, Daniel, Joshua E. Blumenstock, and Samsun Knight. Forthcoming. “Manipulation-Proof Machine Learning”