الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز المؤسسات الديمقراطية من خلال ضمان سماع أصوات المواطنين حقا
يشعر الناس بالقلق من أن الذكاء الاصطناعي يقوض الديمقراطية أو أنه سيقوضها قريبا. وهم يخشون أن يحل الذكاء الاصطناعي محل الوظائف، ويزعزع استقرار الاقتصاد، ويوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وقد يؤدي هذا إلى تركيز السلطة في أيدي عدد قليل من شركات التكنولوجيا وإضعاف الهياكل الحكومية المصممة لتنظيمها. ويخشى البعض أيضا من أن تقوم شركات التكنولوجيا العملاقة والحكومات على نحو متزايد بتفويض عملية صنع القرار البشري للآلات، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى إحلال ما يسمى "الخوارزمقراطية" محل الديمقراطية، أي حكم الخوارزميات وليس حكم الشعب.
ولا تراعي هذه الرؤية البائسة قدرتنا الحالية على تشكيل عملية تطوير الذكاء الاصطناعي. فنحن، كمجتمعات بشرية، لدينا القدرة السياسية (على الأقل في الوقت الحالي) على التصدي للضرر الذي يمكن أن يلحقه بنا الذكاء الاصطناعي وعلينا مسؤولية القيام بذلك. وأمامنا أيضا الفرصة التكنولوجية لتسخير الذكاء الاصطناعي لتعزيز ديمقراطيتنا بطريقة تدعم قدرتنا الجماعية على السيطرة على الذكاء الاصطناعي، وليس مجرد تنظيمه.
وعلى غرار التحديات الأخلاقية والسياسية الأخرى، مثل التحرير الجيني، لا تتطلب حوكمة الذكاء الاصطناعي المزيد من تدخل الخبراء والتنظيم فحسب، بل تتطلب أيضا المزيد من أصوات المواطنين ومدخلاتهم، مثلا بشأن كيفية التعامل مع أثر الذكاء الاصطناعي على توزيع الموارد في الاقتصاد. وشأنها شأن الشواغل العالمية الأخرى، مثل تغير المناخ، تتطلب حوكمة الذكاء الاصطناعي أن يُسمع هذا الصوت الديمقراطي على مستوى المؤسسات الدولية. ولحسن الحظ، فإن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على تولي دور القيادة في شكل من الديمقراطية أكثر شمولا يتسم بالتشاركية والتداول، بما في ذلك على المستوى العالمي.
التجارب التشاركية
انخرط العديد من الحكومات على مدار أربعين عاما في تجارب تهدف إلى إشراك المواطنين العاديين في عملية صنع السياسات والتشريعات بطرق أجدى من التصويت وحده. وكانت معظم هذه التجارب محلية وصغيرة الحجم، وتشبه إلى حد كبير مجالس المواطنين وهيئات المحلفين التي انتشرت بشأن المناخ ومسائل أخرى. وقد وجد تقرير لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي لعام 2020 ما يقرب من 600 حالة من هذا القبيل، حيث تنخرط عينة عشوائية من المواطنين بعمق في مسألة ما وتصوغ توصيات مستنيرة بشأن السياسات (وحتى مقترحات في إحدى الحالات).
غير أن بعضا من هذه التجارب السياسية سعت أيضا إلى المشاركة الجماهيرية، كما هو الحال في العمليات الدستورية التشاركية التي نُظمت في البرازيل وكينيا ونيكاراغوا وجنوب أفريقيا وأوغندا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، ومؤخرا في شيلي ومصر وأيسلندا، والتي استخدمت المشاورات الجماهيرية والتعهيد الجماعي للوصول إلى الناس العاديين. وبطبيعة الحال، لم تكن كل المحاولات ناجحة، ولكن كانت جميعها جزءا من اتجاه مهم.
كما أطلقت بعض الحكومات حملات تشاورية واسعة النطاق ومتعددة الأشكال. ومن الأمثلة على ذلك الحوار الوطني الكبير لعام 2019 الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استجابة لحركة السترات الصفراء، والذي شارك فيه نحو 1.5 مليون شخص. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك مؤتمر الاتحاد الأوروبي بشأن مستقبل أوروبا الذي دعا المواطنين من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى إبداء رأيهم في الإصلاحات التي أدخلت على سياسات الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، مما دفع 5 ملايين شخص إلى زيارة الموقع الإلكتروني و700 ألف شخص إلى المشاركة في الحوار.
وعلى الرغم من وجود بعض العناصر عبر الإنترنت، كانت هذه العمليات في الغالب عبارة عن عمليات تناظرية منخفضة التكنولوجيا، ولا تشمل أي ذكاء اصطناعي على الإطلاق. ونتيجة لذلك، تجاهل السياسيون، الذين غمرتهم البيانات الأولية والمتعددة الأوجه أو التي كانوا غير متأكدين من معناها، مدخلات المواطنين بكل سهولة. وكان مسموحا للناس أن يتكلموا ولكن لم يكن يُسمع لهم دائما. وكان مستوى المداولات سطحيا في كثير من الأحيان حتى بالنسبة للمشاركين فيها.
تعزيز المداولات
أصبح أمامنا الآن فرصة لتوسيع نطاق هذه العمليات التداولية وتحسينها بشكل مطرد حتى يمكن لأصوات المواطنين، بكل ثرائها وتنوعها، أن تُحدث فرقا. وتشكل مقاطعة تايوان الصينية مثالا على هذا التحول.
ففي أعقاب ثورة "عباد الشمس في عام 2014" في المقاطعة، والتي جلبت إلى السلطة سياسيين بارعين في مجال التكنولوجيا، أُنشئت منصة مفتوحة المصدر على الإنترنت تسمى pol.is. وتسمح هذه المنصة للأشخاص بالتعبير عن آراء تفصيلية بشأن أي موضوع، بدءا من تنظيم شركة أوبر وحتى السياسات المتعلقة بكوفيد، والتصويت على الآراء المقدمة من الآخرين. كما تستخدم المنصة هذه الأصوات لرسم خريطة لمشهد الرأي العام، مما يساعد المساهمين على فهم المقترحات التي ستحظى بتوافق الآراء وتحديد الأقلية والآراء المعارضة بوضوح وحتى مجموعات الضغط ذات المسار الحزبي الواضح. ويساعد ذلك الناس على فهم بعضهم البعض بشكل أفضل ويقلل الاستقطاب. ثم يستخدم السياسيون المعلومات الناتجة عن هذه العملية لتشكيل استجابات السياسة العامة التي تأخذ في الاعتبار جميع وجهات النظر.
وعلى مدار الأشهر القليلة الماضية، تطورت منصة pol.is لدمج تعلم الآلة مع بعض وظائفها لتكون تجربة المنصة أكثر تداولا. ويمكن للمساهمين في المنصة الآن التعامل مع نموذج اللغة الكبير (نوع من الذكاء الاصطناعي)، الذي يتحدث نيابة عن مجموعات رأي مختلفة ويساعد الأفراد على معرفة موقف حلفائهم، وخصومهم، وكل من بينهما. ويجعل ذلك التجربة على المنصة تتسم حقا بتداولية أكبر ويساعد أيضا على منع الاستقطاب. واليوم، تُستخدم هذه الأداة بشكل متكرر للتشاور مع السكان، حيث يشارك فيها 12 مليون شخص، أو ما يقرب من نصف السكان.
كما ترى الشركات، التي تواجه تحديات الحوكمة الخاصة بها، إمكانات المشاورات الواسعة النطاق التي يدعمها الذكاء الاصطناعي. وبعد إطلاق شركة ميتا (فيسبوك سابقا) لمجلس الإشراف التكنوقراطي الأكثر كلاسيكية، والذي يضم محامين وخبراء لاتخاذ قرارات بشأن المحتوى، بدأت الشركة في تجربة منتديات مجتمع ميتا في عام 2022، حيث يمكن لمجموعات مختارة عشوائيا من المستخدمين من عدة دول أن تتداول بشأن تنظيم المحتوى المناخي. وفي جهد أكثر طموحا بذل في ديسمبر 2022، شارك 6 آلاف مستخدم من 32 بلدا باستخدام 19 لغة في مناقشة مسألة التنمر عبر الإنترنت في الميتافيرس على مدار عدة أيام. وتم تيسير المداولات في تجربة شركة ميتا على منصة مملوكة لجامعة ستانفورد من خلال الذكاء الاصطناعي (الذي لا يزال في مرحلته الأولية)، حيث حدد الذكاء الاصطناعي أوقات التحدث، وساعد المجموعات على اتخاذ قرار بشأن المواضيع التي ستتم مناقشتها، وقدم المشورة بشأن الوقت المناسب لوضعها جانبا.
وفي الوقت الحالي، لا يوجد دليل على أن ميسري الذكاء الاصطناعي يقومون بعمل أفضل من البشر، ولكن قد يتغير ذلك قريبا. وعندما يحدث ذلك، سيكون لدى ميسري الذكاء الاصطناعي ميزة واضحة تتمثل في كونهم أرخص بكثير، وهو أمر مهم إذا أردنا توسيع نطاق العمليات التداولية العميقة بين البشر (وليس بين البشر ومقلدي نموذج اللغة الكبير، كما في التجربة التايوانية) من 6 آلاف شخص إلى ملايين من الناس.
الترجمة والتلخيص والتحليل
لا تزال تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الديمقراطية التداولية في مراحلها الاستكشافية. وتشكل الترجمة الفورية بين المجموعات المتعددة اللغات الحدود التالية، وكذلك الحال بالنسبة لتلخيص المداولات الجماعية. ووفقا لبحث حديث، فإن الذكاء الاصطناعي أكثر دقة بنسبة 50 في المائة من البشر عندما يتعلق الأمر بالتلخيص (وفقا لتقييم طلاب جامعيين مدربين يقارنون ملخصات الذكاء الاصطناعي وملخصات المبرمجين البشريين لنصوص المداولات). ومع ذلك، من المحتمل أن يكون قدر ما من الحكم البشري ضروريا في العديد من هذه المهام. وفي مثل هذه الحالات، يظل الذكاء الاصطناعي بمثابة أداة مساعدة مفيدة للمحللين البشريين والميسرين والمترجمين.
ويلوح في الأفق المزيد من الطرق التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزز من خلالها الديمقراطية. وقدمت شركة OpenAI، وهي الشركة التي أطلقت نموذج الذكاء الاصطناعي ChatGPT، مؤخرا برنامج مِنح يسمى المدخلات الديمقراطية للذكاء الاصطناعي. ودعمت المِنح الأفرقة العشرة الواعدة في العالم التي تعمل على خوارزميات تخدم المداولات البشرية (لأغراض الكشف الكامل: أنا عضو في مجلس المستشارين الأكاديميين الذين ساعدوا في صياغة دعوة المِنح واختيار الفائزين). ونأمل أن يتم نشر هذه الأدوات قريبا لخدمة المداولات العالمية المتعلقة بحوكمة الذكاء الاصطناعي، من بين أهداف أخرى، بما يتماشى مع رؤية الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI سام ألتمان.
التصدي للمخاطر
ينطوي نشر الذكاء الاصطناعي في العالم الديمقراطي على مخاطر، مثل تحيز البيانات، وشواغل بشأن الخصوصية، وإمكانية المراقبة، والتحديات القانونية، في كل مجال تقريبا. كما أنه يثير مشكلة الفجوة الرقمية والإقصاء المحتمل للمجموعات التي تعاني من الأمية والتي تشكك في التكنولوجيا. ولابد من حل العديد من هذه المشاكل سياسيا، واقتصاديا، وقانونيا، واجتماعيا في المقام الأول، وليس من خلال التكنولوجيا وحدها. ولكن يمكن أن تساعد التكنولوجيا في هذا المجال أيضا.
وعلى سبيل المثال، يمكن تبديد الشواغل إزاء الخصوصية والمراقبة من خلال شيء مثل بروتوكولات المعرفة الصفرية (التي تسمى أيضا إثباتات المعرفة الصفرية)، والتي تهدف إلى التحقق من الهوية أو "إثباتها" دون جمع بيانات عن المشاركين (على سبيل المثال، من خلال مصادقة الرسائل النصية أو من خلال سلاسل الكتل). ويمكن استخدام إثباتات المعرفة الصفرية للتصويت عبر الإنترنت وفي السياقات التداولية، مثلا لتقاسم المعلومات الحساسة أو تأدية دور المبلغين عن المخالفات. وفي الوقت نفسه، يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يجعل المعرفة والموارد التعليمية التي كانت شحيحة سابقا متاحة لكل من يحتاج إليها. وباعتباره محاورا مصمما خصيصا للمواطنين، يمكن أن يوضح الذكاء الاصطناعي مسائل السياسات التقنية في النمط المعرفي الخاص للأشخاص (بما في ذلك من خلال الصور) وتحويل مدخلاتهم الشفوية إلى مدخلات مكتوبة حسب الحاجة.
وعلى الرغم من القيود والمخاطر التي يواجهها الذكاء الاصطناعي، فإن لديه القدرة على تحقيق نسخة أفضل وأكثر شمولا من الديمقراطية، وهي نسخة من شأنها أن تزود الحكومات بالشرعية والمعرفة للإشراف على تطوير الذكاء الاصطناعي. ومن المرجح لتنظيم الذكاء الاصطناعي أن يُطبق بشكل أفضل ويكون أكثر فعالية في الديمقراطيات التي يدعمها الذكاء الاصطناعي.
ومع ذلك، لا تزال هناك مخاطر من أن تكون الديمقراطية نفسها ضحية لثورة الذكاء الاصطناعي. وهناك حاجة إلى استثمار عاجل في أدوات الذكاء الاصطناعي التي تعمل بشكل آمن على زيادة الإمكانات التشاركية والتداولية لحكوماتنا.
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.