إذا ما أُحسِن استخدامه يمكن أن يعجل كثيرا من النمو الاقتصادي ويساهم في انتعاش نمو الإنتاجية
الاقتصاد العالمي في فترة ما بعد الجائحة يكتنفه نمو بطيء، وتضخم هو الأكثر اطرادا على مر عقود، وتقدم محدود نحو تحقيق أهداف الاستدامة، وتكاليف اقتراض مرتفعة تثقل كاهل الاستثمار، بما في ذلك الاستثمارات الضخمة اللازمة لتحول نظام الطاقة. ومع ذلك، لعل أشد العوامل المعاكسة هو نمو الإنتاجية الخامل منذ الأزمة المالية العالمية.
والذكاء الاصطناعي هو أفضل الفرص المتاحة لنا لتخفيف قيود جانب العرض التي ساهمت في تباطؤ النمو، والضغوط التضخمية الجديدة، وتزايد تكاليف رأس المال، والعسر المالي وتراجع حيز الإنفاق من المالية العامة، والتحديات أمام تحقيق أهداف الاستدامة. والسبب في ذلك أن إمكانات الذكاء الاصطناعي لا تقتصر على عكس الاتجاه الهبوطي في الإنتاجية فحسب، بل تمتد إلى تحقيق طفرة كبرى مستمرة في الإنتاجية بمرور الوقت.
ولا شك أن ذلك سيستغرق بعض الوقت. وهنا نجد أن قانون "روي أمارا" ينطبق على هذه الحالة مثلما كان في النوبات السابقة من التحول التكنولوجي: فنحن نميل إلى المغالاة في تقدير الآثار قصيرة الأجل ونقلل من شأن الآثار الأطول أجلا. وأفضل تخميناتي (وهي مجرد تخمينات قائمة على أساس أنماط الاستثمار الحالية) أننا قد نبدأ في مشاهدة آثار مهمة في إنتاجية العمل مع نهاية العقد الجاري.
وكل هذه الأشياء هي نتيجة صدام ثلاث قوى مؤثرة.
الأولى هي الصدمات، بما فيها الحرب، والجائحة، وتغير المناخ، والتوترات الجغرافية-السياسية، وعودة ظهور القومية، وتزايد التركيز على الأمن القومي في إدارة السياسة الاقتصادية الدولية. وتتسبب هذه الاضطرابات التي تتزايد حدتها ومعدلات تكرارها في تحوُّل شبكات العرض العالمية نحو زيادة التنوع وتعزيز الصلابة. ولكن ذلك يمثل ضغطا مكلِّفا وعاملا مساهما في الضغوط التضخمية.
وعلى سبيل المثال، تعكف شركة أبل في الوقت الحالي على تحويل مسار المزيد من الصناعات التحويلية إلى الهند، التي تنتج حاليا 15% من هواتف آي فون. وفي الوقت نفسه، نجد أن كوريا الجنوبية ومقاطعة تايوان الصينية فقط تضطلعان بتصنيع (عكس تصميم) أشباه الموصلات الأكثر تقدما، وهو ترتيب غير قابل للاستمرار من منظور الأمن القومي.
ومنهج تنويع مقاصد التعهيد تعززه مبادرات على مستوى السياسات تهدف إلى إعادة سلاسل الإمداد المهمة إلى موطنها الأصلي، أو على أقل تقدير إلى البلدان الصديقة، مع الحيلولة دون حصول البلدان المعادية على السلع والتكنولوجيا ورأس المال. ويهدف بعض هذه السياسات الحكومية إلى حماية العمالة المحلية من المنافسة الأجنبية.
وكانت نتيجة ذلك هي تسارع تشرذم شبكات العرض العالمية في فترة ما بعد الجائحة بعد أن كانت أكثر تماسكا في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية. وكانت سلاسل الإمداد في ذلك الوقت تتبع إلى حد كبير معيارين اقتصاديين، هما الكفاءة والميزة النسبية. وفي الوقت الراهن، يستحيل تعظيم الصلابة والحد من التكاليف في آن واحد، ولم نعد نعمل على الحد من التكاليف. وساهم التحول الهيكلي، من بين عوامل كثيرة، في نشأة الضغوط التضخمية.
اتجاهات عامة مطردة
حتى مع انحسار الضغوط على سلاسل الإمداد من جراء الجائحة، توجد مجموعة ثانية من القوى المتصادمة تتمثل في الاتجاهات العامة المطردة التي تخفض مرونة الإمداد لدى الاقتصاد بدرجة أكبر وترفع التكاليف. ومن بينها تراجع الإنتاجية، لا سيما في الاقتصادات المتقدمة.
وتتضمن هذه الاتجاهات العامة كذلك شيخوخة السكان في اقتصادات تمثل أكثر من 75% من الناتج العالمي. فتراجع معدلات الخصوبة وتزايد أعمار البشر يتسببان في تباطؤ نمو القوة العاملة- أو حتى تقلصه، مما يترك عددا أقل من العمالة يراعون شؤون عدد أكبر من كبار السن. وحسب طبيعة نظم الضمان الاجتماعي، فإن هذا الأمر يخلق ضائقة مالية في وقت لا تزال فيه أسعار فائدة البنوك المركزية مرتفعة. ومن المثير للدهشة أن هناك كثيرا من الاقتصادات المتقدمة تعاني من نقص الأيدي العاملة في القطاعات عالية التوظيف. وفي ظل قوة الطلب الكلي فلا يزال هذا الأمر يعوق النمو ويزيد الضغوط التضخمية، ولا سيما في الولايات المتحدة. وواجهت ألمانيا مشكلات مماثلة في عرض العمالة.
وتضمن أثر الجائحة حدوث زيادة في مستويات الدين السيادي في مجموعة كبيرة من الاقتصادات، حيث يتجاوز الدين السيادي العالمي في الوقت الراهن إجمالي الناتج المحلي العالمي ويواصل ارتفاعه إلى ما يتجاوز هذا المستوى الحدي في الولايات المتحدة، حيث تبلغ النسبة حاليا 120%. وتبلغ النسبة في أوروبا 88,6%، مع تجاوز كل من اليونان وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا والبرتغال المتوسط (وفي حالتي اليونان وإيطاليا، بدرجة كبيرة). ويبدو الدين السيادي في الصين منخفضا، إلا عند حساب دين المؤسسات المملوكة للدولة التي تشكل جانبا كبيرا من قطاع الشركات. ويرجع السبب في ذلك جزئيا للإنفاق الهائل والمتعاقب المرتبط بالجائحة لمنع المعاناة الإنسانية، وحالات إغلاق الأعمال، وإلحاق الضرر بالميزانيات العمومية للأفراد والشركات. ومن أسباب احتفاظ الطلب بصلابته في ظل ارتفاع أسعار الفائدة هو بالتحديد لأن الضرر الذي لحق بالميزانيات العمومية أثناء الأزمة المالية العالمية كان أقل كثيرا في اقتصاد الجائحة.
وأخيرا، في هذه الفئة الثانية، نجد أن القوة الانكماشية التي استمرت لعدة عقود واقترنت بنمو اقتصادات الأسواق الصاعدة وضخ زيادات كبيرة من الطاقة الإنتاجية في الاقتصاد العالمي، وخاصة، وليس حصرا، في الصين، آخذة في الأفول.
ويشير خبراء اقتصاد التنمية لهذا الأمر باسم "نقطة تحول لويس". وهذه هي مرحلة النمو التي تُستنفد فيها العمالة بنظام البطالة الجزئية والعمالة غير المستغلة من القطاعات التقليدية في أحد اقتصادات الأسواق الصاعدة ويتم استيعابها في التوسع الحضري وفي أجزاء الاقتصاد المترابطة بصورة أفضل.
وتستحق الإنتاجية أن نوليها اهتماما خاصا. فقد بلغ معدل نمو الإنتاجية في الولايات المتحدة 1,68% في الفترة من 1998 إلى 2007، وهي فترة اتسمت بحصول كثير من الأمريكيين على خدمة الإنترنت، ولاحقا الهواتف المحمولة. ثم تباطأ نمو الإنتاجية إلى 0,38% في الفترة من 2010 إلى 2019.
وكان هذا التراجع على مستوى الاقتصاد بأكمله. ففي حالة قطاعات السلع والخدمات القابلة للتداول التجاري، التي غالبا ما تكون أكثر إنتاجية رغم أنها توظف أقل من رُبع العمالة، انخفض معدل نمو الإنتاجية من 4,27% إلى 1,23%. أما القطاعات الكبيرة والأقل إنتاجية المعنية بالخدمات غير القابلة للتداول التجاري، فقد تراجع نمو الإنتاجية فيها من 0,73% إلى صفر فعليا.
ومما يبعث على الدهشة أنه على الرغم من هذا النمط في الآونة الأخيرة من تراجع نمو الإنتاجية، فقد ظل أداء الولايات المتحدة بازغا مقارنة بالاقتصادات المتقدمة الأخرى، بما فيها أوروبا بأكملها. ففي أوروبا، يرجع تأخر النمو والإنتاجية جزئيا إلى ضعف سرعة وفعالية اعتماد التكنولوجيات الرقمية وتوظيفها، وإلى عدم تطور القطاعات التقنية بالقدر الكافي مقارنة بالولايات المتحدة والصين.
وقد ارتفعت الإنتاجية المقيسة أثناء الجائحة، مما يرجع بقدر كبير إلى الإغلاق الجزئي للصناعات الأقل إنتاجية، في حين تحولت القطاعات الأعلى إنتاجية إلى العمل من بُعد. وسوف نحتاج إلى مزيد من البيانات لكي نعلم إذا كان هذا الانتعاش سيدوم، ولكن هناك أنماطا مماثلة مشاهدة في اقتصادات متقدمة أخرى.
ويتمثل الأثر المجمع لهاتين المجموعتين من القوى في التحول السريع نسبيا من نمو خاضع لقيود الطلب إلى نمو خاضع لقيود العرض. فالنمو منخفض، والتضخم مستمر، وأسعار الفائدة الحقيقية لا تزال مرتفعة. ويرى كثير من الاقتصاديين، وأنا منهم، أن الأوضاع الهيكلية التي شرحتها تعني ترجيح بقاء تكاليف الاقتراض مرتفعة، وأعلى بالتأكيد مقارنة بالعقد الذي أعقب الأزمة المالية العالمية. ويرجح أن يتسبب ذلك في حدوث تغيرات مهمة في عالم الاستثمار، بما في ذلك عن طريق إبقاء تكلفة رأس المال وأسعار الخصم على ارتفاعها وخفض التقييمات.
وجدير بالذكر أن المستثمرين لا يتفقون مع هذا الاتجاه ويغيرون رأيهم عن المسار المرجح لأسعار الفائدة. وعلى سبيل المثال، نجد أن التوقعات في العام الماضي بعزم الاحتياطي الفيدرالي تنفيذ سبعة تخفيضات في أسعار الفائدة في العام الجاري بنسبة قدرها رُبع نقطة سرعان ما تم رفضها. وتستبعد الأسواق من حساباتها في الوقت الراهن واحدا أو اثنين من التخفيضات. وقد تتطور التوقعات أكثر باتجاه أسعار الفائدة المرتفعة لفترة أطول، وتشير الأوضاع الهيكلية إلى ترجيح هذا الاتجاه.
الثورات التكنولوجية
ويقودنا هذا إلى الحديث عن المجموعة الثالثة من القوى المتصادمة، أي العلوم والتكنولوجيا. هناك ثلاثة تحولات ثورية على الأقل تجري في الوقت الحالي. أحدها هو التحول الرقمي على مدار عدة عقود، الذي تسارعت وتيرته حاليا نتيجة الانفراجات التي تحققت في الذكاء الاصطناعي. والثاني هو الثورة التي حدثت في علم الطب الحيوي وعلوم الحياة. أما الثالث فهو التكنولوجيات التي يرتكز عليها التحول إلى الطاقة المستدامة.
وتتمتع التحولات الثلاثة جميعا بقدر وفير من الاستثمارات. ولا يقتصر تسارع وتيرة التقدم المحرز على الانفراجات فحسب، بل أيضا على توافر مجموعة من الأدوات المؤثرة التي تشهد تراجعا في تكلفتها وزيادة في سهولة استخدامها. فقد سجلت تكاليف الطاقة الشمسية انخفاضا كبيرا خلال العقد الماضي. وانتشر استخدام بعض التطورات الأخرى، من أشباه الموصلات المتطورة إلى تحديد تسلسل البصمة الوراثية إلى النماذج ثلاثية الأبعاد لمئات الملايين من البروتينات المتاحة بدون مقابل في قاعدة بيانات عامة.
ومن شأن تطوير تكنولوجيات مماثلة وإتاحتها للاستخدامات المنتجة أن يحفزا حدوث تغيرات هيكلية كبرى في اقتصادات العالم. ورغم أنه لا يسعنا التنبؤ بالنطاق الكامل لما تبشِّر به هذه التغيرات، فإن آثارها ستكون حتما كبيرة.
ومن شأن التكنولوجيا الناشئة أن تحقق طفرة مستمرة في الإنتاجية، كما ذكرت العام الماضي في مقال* عن إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي (بالاشتراك مع جيمس مانيكا من شركة غوغل). ويأتي ذلك متسقا مع غيره من التقديرات، مثل تلك التقديرات الصادرة عن معهد ماكينزي العالمي.
والذكاء الاصطناعي التوليدي هو أول نظام للذكاء الاصطناعي له قدرات مشابهة للقدرات البشرية للعمل في نطاقات متعددة ولرصد النطاقات والتحول فيما بينها استنادا فقط إلى الأوامر الحوارية. وبإمكانه التحدث عن التضخم، وكتابة شفرة حوسبة، وحل بعض المسائل الحسابية - وإن كان ذلك لا يزال عملا قيد الإنجاز. ومن شأن قدرة الذكاء الاصطناعي الفائقة على التعرف على الأنماط أن تجعل منه مساعدا رقميا قويا. وبدلا من التشغيل الآلي الكامل، فإن النموذج الأفضل هو من خلال التعاون بين الآلة والإنسان، أو ما يعرف أحيانا باسم "التعزيز" (augmantation).
وجيفري هينتون، وهو أحد رواد منهج الذكاء الاصطناعي الحديث القائم على الشبكات العصبية، لديه مفهوم خاص عن الانعكاسات المترتبة على ذلك. وفي هذا الشأن، يستخدم مثال الطبيب المتمرس. ففي الوقت الذي يمكن لهذا الطبيب علاج آلاف المرضى، فإن الذكاء الاصطناعي الطبي بإمكانه استعراض واستيعاب حالات مئات الآلاف من المرضى، وهو ما قد يجعله نافعا للطبيب المتمرس، وأكثر نفعا للأطباء الأقل حنكة. وهذا يتسق مع دراسات تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات أخرى، مثل خدمة العملاء، حيث تمكنت تقنية المساعد الرقمي المدعوم بالذكاء الاصطناعي، والمدرب على تفاعلات سابقة، من تحقيق مكاسب كبيرة في الإنتاجية بوجه عام، بل تحقيق منافع أكبر للوكلاء الأقل خبرة.
والذكاء الاصطناعي هو تكنولوجيا للاستخدام العام لها تطبيقات موزعة عبر الاقتصاد بأكمله، حسب القطاع ونوع العمل. وهذه سمة مهمة، لأن تكنولوجيات الاستخدام العام هي وحدها القادرة على تحقيق طفرة في الإنتاجية على مستوى الاقتصاد بالكامل.
وبفضل أشباه الموصلات المتقدمة أصبحت الأجهزة الشخصية، كالهواتف المحمولة، مزودة حاليا بالفعل بتطبيقات الذكاء الاصطناعي.
ومع ذلك، هناك تحديات يتعين التغلب عليها حتى يمكن تحقيق كامل الإمكانات، ومن بينها تطبيق قواعد تنظيمية لمنع إساءة استخدام هذه التكنولوجيا والبيانات. وجارٍ حاليا تنفيذ جدول الأعمال التنظيمي المقرر لتخفيف المخاطر في مختلف أنحاء العالم.
ومن التحديات الأخرى التغلب على التحيز للأتمتة، أو ما يسميه "إيريك برينجولفسون" فخ تورينغ*، أي الميل الشديد نحو اعتبار هذه التكنولوجيا بمثابة تشغيل آلي كامل ومن ثم تصبح بديلا للإنسان.
وهذه رؤية شائعة في النقاشات الدائرة في وسائل الإعلام ودوائر الأعمال وعلى مستوى السياسات. ويعكس هذه الرؤية القلق واسع النطاق بشأن حدوث تراجع خطير في التوظيف.
وقد تكون القضية الأهم على مستوى السياسات هي تلك المتعلقة بالمكاسب الممكنة. وحتى يمكن أن يحقق الذكاء الاصطناعي أثره الاقتصادي الكامل بمرور الوقت، يجب أن يكون متاحا بسهولة لكافة قطاعات الاقتصاد، وللشركات الكبيرة منها والصغيرة. وهناك شك لا يذكر في أن الاستثمارات الكبيرة في صناعات مثل التكنولوجيا والتمويل سيكون لها تأثير كبير، ولكن يتعين وصول التطبيقات إلى قطاعات التوظيف الكبيرة المتأخرة غالبا عن اللحاق بالركب - مثل قطاعات الحكومة، والرعاية الصحية، والبناء، والضيافة. وتشير دراسات ما قبل الذكاء الاصطناعي التي تتناول اعتماد التقنيات الرقمية إلى أن نمط الانتشار الواسع هذا ليس مضمونا، ومن المحتمل، بل من المرجح تركه بالكامل لتباين القوى السوقية.
وفي الوقت الحالي، نجد أن السياسات المعنية بسهولة الاستخدام والنشر واكتساب المهارات للمساعدة في تحقيق كامل إمكانات الذكاء الاصطناعي تتسم بالضعف مقارنة بكثافة التركيز على التخفيف من المخاطر وإساءة الاستخدام. وسوف يكون التوسع في الأولى دون إهمال الأخيرة من العناصر المهمة في إعادة توازن السياسات. وليس الهدف من ذلك تأييد الحكومة في اختيار الشركات الناجحة أو الشركات الوطنية القائدة. بل بالعكس، ينبغي أن تكون سياسات التنافس الفعالة جزءا من محفظة السياسات. وبالإضافة إلى ذلك، يتعين توجيه جانب من التركيز إلى القطاعات ومؤسسات الأعمال المتأخرة عن الركب في اكتشاف التكنولوجيا واعتمادها، مثل المشروعات الصغيرة والمتوسطة. ونظرا لأن الوظائف سوف تتغير لدى الشركات المتعاونة مع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، فإن إعادة التدريب واكتساب المهارات الجديدة جديران بأن ينالا أولوية الاهتمام.
التغلب على التحديات
المكاسب الممكنة من الذكاء الاصطناعي تتجاوز بكثير مكافحة تحديات الإنتاجية والنمو في فترة ما بعد الجائحة. ومن المقرر أن تؤثر على بحوث العلوم والتكنولوجيا، من علم الأحياء إلى علم الفيزياء والمواد، وأن يكون لها دور مهم في تحول نظام الطاقة.
وتشكل المهارات، والقوة الحاسوبية، وسرعة زيادة الطلب على الكهرباء الحواجز الرئيسية أمام بناء نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي متزايدة القوة. ولا تشكل إتاحة البيانات قيدا كبيرا في هذا الشأن. فالإنترنت يتيح بيانات تدريبية وفيرة. وبلا شك، هناك ذكاء اصطناعي لا يندرج ضمن فئة الذكاء الاصطناعي التوليدي ويتمتع بالقوة والأهمية. ومثال على ذلك، نظام Alphafold، وهو نظام للذكاء الاصطناعي يتنبأ بالهياكل ثلاثية الأبعاد للبروتينات. ولاستخدام هذا التطبيق يتعين توفير بيانات متخصصة في علم الأحياء ورأي خبير عن كيفية عمل تطوِّي البروتين.
وصحيح أيضا أن المنصات العملاقة التي تقود تطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي لديها نماذج أعمال تعتمد على بيانات شخصية وتوجيه بالغ الدقة. ولكن تدريب نماذج اللغة الكبيرة وما شابهها لا يحتاج إلى بيانات محدِّدة للشخصية وحساسة.
فهذه النظم قوية بالقدر الكافي لتدريب النماذج بمليارات المعلمات الكائنة إلى حد كبير في نظم الحوسبة السحابية في القطاع الخاص، ومعظمها في الولايات المتحدة والصين. وسيؤدي ذلك، إلى جانب التنافس على المهارات، إلى وضع العلوم والدوائر الأكاديمية في ظروف غير مواتية. ويعد توسيع نطاق البنية التحتية الحاسوبية لتستفيد منها مجموعة كبيرة من الباحثين والمبتكرين بمثابة خطوة ضرورية على مستوى السياسات لإضفاء طابع ديمقراطي على بناء مجتمع مفتوح يتحقق فيه التوازن السليم بين الابتكار الأكاديمي وابتكار القطاع الخاص. ومن شأن تحقيق هذا التوازن أن يدعم نشر التكنولوجيا على نطاق واسع.
وتتعرض أوروبا لمخاطر التخلف عن ركب الولايات المتحدة والصين في تطوير واعتماد الذكاء الاصطناعي لثلاثة أسباب. الأول هو قصور التمويل النسبي من الاتحاد الأوروبي لأنشطة البحث الأساسية. والثاني هو تخلفها عن الركب في القدرة الحاسوبية لدعم البحث. والثالث هو إخفاقها في الاستفادة الكاملة من وفورات الحجم في الاقتصاد الأوروبي. فمع ارتفاع التكاليف الثابتة للتطوير وانخفاض التكاليف المتغيرة نسبيا في التكنولوجيا الرقمية وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، تشكل وفورات الحجم ميزة هائلة في تحديد عائد الاستثمار. ولا تزال أسواق رأس المال الأوروبية متجزئة؛ والتكامل السوقي في الخدمات غير مكتمل وتعوقه القواعد التنظيمية المتجزئة على المستوى القومي. ولم يتضح بعد ما إذا كان هذا الوضع سيستمر أم أن هناك تحولا في المسار سيحدث بعد انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة. وهناك تقريران للعرض على المفوضية الأوروبية - واحد من "إنريكو ليتا" وآخر يصدر قريبا من إعداد "ماريو دراغي" - يؤيدان زيادة الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية.
وتمثل الصين في الوقت الحالي إحدى منارات الذكاء الاصطناعي. ومن المرجح أن تصبح الهند قوة متنامية، في ظل ما تتمتع به من جذور راسخة في التكنولوجيا الرقمية، وسوق داخلية كبيرة ومتنامية، ومستودعات ضخمة من رأس المال البشري في مجال الهندسة.
وقد تفيد بقية اقتصادات الأسواق الصاعدة بدرجة كبيرة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ولكنها، في السنوات القليلة القادمة على الأقل، سوف تكون في الغالب مستهلكا لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المتقدمة المنتجة غالبا في الولايات المتحدة والصين.
وسوف تقود تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي قدرا كبيرا من التغيرات والتحولات الهيكلية لعدة عقود قادمة. وبينما سيفقد بعض العمالة وظائفهم بسبب الأتمتة أو نمو الإنتاجية السريع، ويتم تعيين آخرين في وظائف ذات طابع جديد استحدثتها التكنولوجيا، فإن العمالة في المنتصف ستكون الأكثر تضررا. وهذا الوضع لا يعني بالضرورة أن الوظائف ستختفي، لكنها ستتغير. وسوف تكون عملية مُربكة تتطلب مهارات مختلفة وكثيرا من التغيير التنظيمي. وتقع على عاتق القطاعين الخاص والعام على السواء مسؤولية القيام بدوريهما المهمين في تأمين سلاسة هذه التحوُّلات.
ومن شأن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بدعم من السياسات لتعجيل نشرها عبر قطاعات الاقتصاد بالكامل، أن تعجل كثيرا من النمو الاقتصادي وتساعد على انتعاش نمو الإنتاجية. وإذا تمكنت من تخفيف القيود على جانب العرض التي تشكل جزءا من قصة التضخم، فمن الممكن أن تساهم بمرور الوقت وعلى نحو غير مباشر في خفض أسعار الفائدة الحقيقية وتكلفة رأس المال. وسوف يكون ذلك عاملا مساعدا في عالم اليوم الذي يتطلب توفير استثمارات بتريليونات الدولارات لتغيير المعادلة من أجل تحقيق كفاءة الطاقة والتحول الأخضر. ومع شيخوخة جانب من الاقتصاد العالمي فإن هذه التكنولوجيا يمكنها مساعدة القوى العاملة الأصغر سنا في دعم كبار السن دون الحاجة لتقديم تضحيات لا داعي لها.
ورغم الصدمات والتيارات المعاكسة المطردة التي تواجه النمو، فإن لدينا المهارات والأدوات اللازمة لتشجيع النمو والإدماج والاستدامة في الاقتصاد العالمي - ولكن ذلك لن يتحقق إلا إذا كانت لدينا الإرادة لاستخدامها بقوة مع توخي الحكمة.
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.