القرارات الجماعية التي نتخذها اليوم ستحدد كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على نمو الإنتاجية وعدم المساواة في توزيع الدخل والتركز الصناعي
يملك الاقتصاديون سجلا ضعيفا في مجال التنبؤ بالمستقبل. ويتكرر دخول وادي السليكون في دورات من الأمل وخيبة الأمل بشأن التكنولوجيا الكبيرة القادمة. لذا، فإن الشكوك السليمة إزاء أي تصريحات بشأن الطريقة التي قد يغير بها الذكاء الاصطناعي الاقتصاد لها ما يبررها. ومع ذلك، هناك أسباب وجيهة تجعلنا نأخذ على محمل الجد الإمكانات المتنامية للذكاء الاصطناعي - النظم التي تظهر سلوكا ذكيا، مثل التعلم والتفكير وحل المشاكل - لتحويل الاقتصاد، ولا سيما في ضوء التقدم التقني المذهل الذي تحقق في العام الماضي.
ويمكن أن يؤثر الذكاء الاصطناعي على المجتمع في عدد من المجالات إلى جانب الاقتصاد، بما في ذلك الأمن القومي والسياسة والثقافة. ولكن في هذا المقال، نركز على آثار الذكاء الاصطناعي على ثلاثة مجالات واسعة ذات أهمية بالنسبة للاقتصاد الكلي: نمو الإنتاجية، وسوق العمل، والتركز الصناعي. والذكاء الاصطناعي ليس له مستقبل محدد سلفا. إذ يمكن له أن يتطور في اتجاهات مختلفة جدا. والمستقبل المعين الذي سينشأ سيكون نتيجة لأشياء كثيرة، بما في ذلك القرارات التكنولوجية والمتعلقة بالسياسات التي تُتخذ اليوم. وبالنسبة لكل مجال، نعرض مفترق طرق: مساران يؤديان إلى مستقبل مختلف تماما للذكاء الاصطناعي والاقتصاد. وفي كل من هذه الحالات، سيكون المستقبل السيئ هو الطريق الذي ينطوي على أقل قدر من المقاومة. والوصول إلى المستقبل الأفضل سيتطلب سياسات جيدة، بما في ذلك:
- تجربة السياسات الإبداعية
- مجموعة من الأهداف الإيجابية لما يريده المجتمع من الذكاء الاصطناعي، وليس فقط النتائج السلبية التي يتعين تجنبها
- فهم أن الإمكانات التكنولوجية للذكاء الاصطناعي غير مؤكدة للغاية وتتطور بسرعة وأن المجتمع يجب أن يكون مرنا في التطور معها
مفترق الطرق الأول: نمو الإنتاجية
يتعلق الطريق الأول بمستقبل النمو الاقتصادي، وهو إلى حد كبير مستقبل نمو الإنتاجية. فقد ظل الاقتصاد الأمريكي عالقا في حالة شهدت انخفاض نمو الإنتاجية بشكل مثير للقلق على مدار معظم الخمسين عاما الماضية، باستثناء انتعاش قصير في أواخر تسعينات القرن الماضي وبداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين (دراسة Brynjolfsson, Rock and Syverson, 2019 ). وتعاني معظم الاقتصادات المتقدمة الآن من نفس المشكلة المتمثلة في انخفاض نمو الإنتاجية. فالإنتاجية، أي الناتج لكل وحدة من المدخلات، تحدد، أكثر من أي عامل آخر، ثروة الأمم والمستويات المعيشية لشعوبها. ومع ارتفاع الإنتاجية، تزداد إمكانية إدارة مشاكل مثل عجز الميزانية، والحد من الفقر والرعاية الصحية والبيئة. وقد يكون تعزيز نمو الإنتاجية التحدي الاقتصادي الأكثر أهمية في العالم.
مستقبل منخفض الإنتاجية
على أحد مسارات مفترق طرق الإنتاجية، يكون تأثير الذكاء الاصطناعي محدودا. وعلى الرغم من التحسن السريع في القدرات التقنية للذكاء الاصطناعي، فإن اعتماد الشركات له قد يظل بطيئا ومقتصرا على الشركات الكبيرة (دراسة Zolas and others 2021). وقد يتضح أن اقتصاديات الذكاء الاصطناعي هي نسخة ضيقة جدا من الاقتصاديات التي توفر العمالة (ما يطلق عليه دارون أسيموغلو وسيمون جونسون "التكنولوجيا البَيْنَ بَيْن"، مثل ماكينة الدفع الآلية في متاجر البقالة)، بدلا من الاقتصادات التي تُمكّن العمال من القيام بشيء جديد أو قوي (راجع مقال "إعادة توازن الذكاء الاصطناعي" في هذا العدد من مجلة التمويل والتنمية). والعمال المنتقلون بشكل غير متناسب قد ينتهي بهم الأمر في وظائف أقل إنتاجية وأقل ديناميكية، مما يؤدي إلى تقليل أي فائدة إجمالية لمعدل نمو إنتاجية الاقتصاد على المدى الطويل.
وعلى غرار العديد من الحالات التي شهدت حماسا تكنولوجيا في الفترة الأخيرة في وادي السليكون (الطابعات ثلاثية الأبعاد، والسيارات ذاتية القيادة، والواقع الافتراضي)، قد ينتهي الأمر بأن يكون الذكاء الاصطناعي أيضا أقل مما يعد به أو أقل استعدادا للطرح في السوق عما كان مأمولا في البداية. فأي مكاسب اقتصادية حقيقية، حتى وإن كانت متواضعة، قد تظهر في البيانات بعد عدة عقود من اللحظات الأولى للوعد التكنولوجي، مثلما كان النمط في كثير من الأحيان. ويمكن للمفارقة الشهيرة التي حددها الاقتصادي روبرت سولو في عام 1987، وهي أنه "يمكنك رؤية عصر الحاسوب في كل مكان إلا في إحصاءات الإنتاجية"، أن تصبح أكثر تطرفا، حيث يبدو أنه سيكون لدى كل شخص روبوت دردشة قائم على الذكاء الاصطناعي يذهل به أصدقاءه، ولكن لن يبدو أن الشركات أصبحت أكثر إنتاجية بعد استخدامها المتزايد للذكاء الاصطناعي. وقد تؤدي الشركات إلى إضعاف أي فوائد اقتصادية يمكن تحقيقها من الذكاء الاصطناعي إذا فشلت في تحديد التغييرات التنظيمية والإدارية التي تحتاج إليها للاستفادة منه على أفضل وجه.
وكما هو الحال مع السيارات ذاتية القيادة، فإن التحديات التكنولوجية المتمثلة في الانتقال من إثبات مثير للمفهوم إلى منتج موثوق به بشدة قد تتفاقم بشكل أكبر بسبب نظام قانوني لم يكن مصمما لاستيعاب هذه التكنولوجيا الجديدة وقد يعوق بشكل خطير تطويرها. وفي حالة الذكاء الاصطناعي، هناك قدر هائل من عدم اليقين بشأن ما تعنيه القوانين القائمة المتعلقة بالملكية الفكرية عندما يتم تدريب النماذج على ملايين من نقاط البيانات التي قد تشمل الملكية الفكرية المحمية للآخرين. وقد يستجيب قانون الملكية الفكرية في نهاية المطاف من خلال إنشاء شيء يشبه "غابة براءات الاختراع" التي تمنع فعليا النماذج من التدريب على البيانات التي لا يمتلك مطوروها حقوقا واضحة عليها. وفي الوقت نفسه، قد تؤدي الاختيارات الخاطئة إلى تقويض الحوافز التي تدفع المهنيين المبدعين إلى إنتاج المزيد من المحتوى الجديد الذي يدعم نظم تعلم الآلة.
وبالإضافة إلى ذلك، قد تفرض الهيئات التنظيمية الوطنية، مدفوعة بأي عدد من الشواغل، لوائح تنظيمية صارمة تؤدي إلى إبطاء سرعة تطوير الذكاء الاصطناعي ونشره. وقد يحثهم على ذلك المطورون الأوائل للذكاء الاصطناعي الذين يسعون إلى حماية تقدمهم. وعلاوة على ذلك، قد تحظر بعض البلدان والشركات والمنظمات الأخرى الذكاء الاصطناعي تماما.
مستقبل عالي الإنتاجية
لكن هناك سيناريو بديلا يؤدي فيه الذكاء الاصطناعي إلى مستقبل ذي نمو إنتاجية أعلى. فقد يتم تطبيق الذكاء الاصطناعي على جزء كبير من المهام التي يقوم بها معظم العمال (دراسة Eloundou and others 2023) ويعزز إنتاجية هذه المهام بشكل ضخم. وفي هذا المستقبل، يفي الذكاء الاصطناعي بوعده بأن يكون أكبر تقدم تكنولوجي على مدى عقود عديدة. وعلاوة على ذلك، ينتهي به الأمر أن يكون مكملا للعمال، ويحرر وقتهم بما يسمح لهم بقضاء المزيد من الوقت في أداء المهام غير الروتينية والإبداعية وليس مجرد استبدالهم. والذكاء الاصطناعي يلتقط ويجسد المعرفة الضمنية (المكتسبة من خلال الخبرة ولكن يكون من الصعب التعبير عنها) التي لدى الأفراد والمنظمات من خلال الاعتماد على كميات هائلة من البيانات المرقمنة الجديدة. ونتيجة لذلك، يكون بوسع المزيد من العمال أن يقضوا المزيد من الوقت في العمل على حل مشاكل جديدة، وتصبح نسبة متزايدة من القوى العاملة أشبه بمجتمع من العلماء الباحثين والمبدعين. والنتيجة هي اقتصاد ليس بمستوى أعلى من الإنتاجية فحسب، بل بمعدل نمو أعلى بشكل دائم.
وفي هذا المستقبل، فإن نجاح التكامل بين الذكاء الاصطناعي والروبوتات يعني أيضا أن جزءا كبيرا من الاقتصاد منفتح أمام التقدم المرتبط بالذكاء الاصطناعي. ولا يمكّن الذكاء الاصطناعي المجتمع من القيام بالأشياء التي يقوم بها بالفعل بشكل أفضل فحسب، بل يمكّنه أيضا من القيام بأشياء وتصور أشياء لم يكن من الممكن التفكير فيها من قبل. وتتيح البحوث الطبية التي يدعمها الذكاء الاصطناعي تحقيق تقدم جذري في معرفة البيولوجيا البشرية وتصميم العقاقير. وأصبح الذكاء الاصطناعي قادرا على مساعدة محرك الإبداع والاكتشاف العلمي نفسه، في مجالات الرياضيات والعلوم ومواصلة تطوير الذكاء الاصطناعي، وهو نوع من التحسين الذاتي التكراري الذي كان في السابق مجرد تجربة فكرية من الخيال العلمي.
مفترق الطرق الثاني: عدم المساواة في توزيع الدخل
تشكل الزيادة في عدم المساواة في توزيع الدخل بين فرادى العمال على مدى السنوات الأربعين الماضية مصدر قلق كبيرا. وتشير مجموعة كبيرة من البحوث التجريبية في اقتصاديات العمل إلى أن الحواسيب وغيرها من أشكال تكنولوجيا المعلومات ربما ساهمت في اتساع فجوة عدم المساواة في توزيع الدخل من خلال أتمتة الوظائف الروتينية ذات الدخل المتوسط، والتي أدت إلى استقطاب القوى العاملة إلى عمال ذوي دخل مرتفع وعمال ذوي دخل منخفض. وعلى الرغم من بقاء وظيفتي الرئيس التنفيذي والبواب، فقد حلت الحواسيب محل بعض وظائف الطبقة الوسطى من عمال المكاتب (دراسة Autor, Levy, and Murnane 2003). ويتناول القسم التالي سيناريوهين بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي على عدم المساواة.
مستقبل أعلى تفاوتا
في السيناريو الأول، يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى زيادة عدم المساواة في توزيع الدخل حيث يقوم التقنيون والمديرون بتصميم الذكاء الاصطناعي وتنفيذه ليحل مباشرة محل العديد من أنواع العمل البشري، مما يؤدي إلى انخفاض أجور العديد من العمال. وما يزيد الأمور سوءا هو أن يبدأ الذكاء الاصطناعي التوليدي في إنتاج الكلمات والصور والأصوات، وهي مهام كان يُعتقد في الماضي أنها غير روتينية وحتى إبداعية، مما يمكّن الآلات من التفاعل مع العملاء وإنشاء المحتوى لحملة تسويقية. وفي نهاية المطاف، يزداد عدد الوظائف المعرضة للتهديد من منافسة الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر. وقد انقلبت صناعات بأكملها رأسا على عقب ويتم استبدالها على نحو متزايد (وهو تهديد للعمال ربما تنبأت به الإضرابات الأخيرة لكتاب السيناريو والممثلين في الولايات المتحدة، الذين طالبوا استوديوهات الإنتاج بتقييد استخدامها للذكاء الاصطناعي).
ليس هذا مستقبلا للبطالة الجماعية. ولكن في هذا المستقبل الذي يتسم بارتفاع مستوى عدم المساواة، ويحل فيه الذكاء الاصطناعي محل الوظائف ذات الأجور المرتفعة أو اللائقة، ينتقل المزيد من العمال إلى وظائف خدمية منخفضة الأجور، مثل حراس المستشفيات والمربيين والبوابين، حيث يحظى بعض الوجود البشري بالتقدير في الأساس، وتكون الأجور منخفضة للغاية بحيث لا تستطيع الشركات أن تبرر تكلفة الاستثمار التكنولوجي الكبير لاستبدالهم. وقد يكون المعقل الأخير للعمل البشري البحت هو هذه الأنواع من الوظائف ذات البعد المادي. ويزداد عدم المساواة في توزيع الدخل في هذا السيناريو مع تزايد استقطاب سوق العمل بين نخبة صغيرة ذات مهارات عالية وطبقة دنيا كبيرة من عمال الخدمات ذوي الأجور المتدنية.
مستقبل أقل تفاوتا
لكن في السيناريو الثاني، يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى انخفاض عدم المساواة في توزيع الدخل لأن أثره الرئيسي على القوى العاملة هو مساعدة العمال الأقل خبرة أو الأقل معرفة على أن يكونوا أفضل في وظائفهم. وعلى سبيل المثال، يستفيد مبرمجو البرمجيات الآن من مساعدة نماذج الذكاء الاصطناعي، مثل Copilot، الذي يعتمد بشكل فعال على أفضل ممارسات البرمجة من العديد من العمال الآخرين. ويصبح المبرمج عديم الخبرة أو دون المستوى الذي يستخدم Copilot أكثر قابلية للمقارنة بمبرمج جيد جدا، حتى عندما يكون لكليهما إمكانية الوصول إلى نفس الذكاء الاصطناعي. وخلصت دراسة أجريت على 5 آلاف عامل يقومون بوظائف مساعدة العملاء المعقدة في مركز اتصال إلى أنه من بين العمال الذين حصلوا على دعم مساعد الذكاء الاصطناعي، أظهر العمال الأقل مهارة أو الجدد أكبر مكاسب في الإنتاجية (دراسة Brynjolfsson, Li, and Raymond 2023). وإذا تقاسم أصحاب العمل هذه المكاسب مع العمال، فإن توزيع الدخل سيصبح أكثر مساواة.
وبالإضافة إلى خلق مستقبل يتسم بانخفاض عدم المساواة في توزيع الدخل، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد العمال بمعنى آخر أكثر دقة، ولكنه عميق. فإذا كان الذكاء الاصطناعي بديلا عن أكثر أنواع المهام الروتينية والمتعلقة بالصياغة، فمن خلال تخليص البشر من العمل الروتيني الممل، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكمل المهام الإبداعية والمثيرة للاهتمام حقا، مما يؤدي إلى تحسين التجربة النفسية الأساسية للعمل، فضلا عن جودة الناتج. وبالفعل، لم تخلص دراسة مركز الاتصال إلى وجود مكاسب في الإنتاجية فحسب، بل خلصت أيضا إلى انخفاض معدل دوران العمال وزيادة رضا العملاء للذين يستخدمون مساعد الذكاء الاصطناعي.
مفترق الطرق الثالث: التركز الصناعي
لقد ارتفع التركز الصناعي، الذي يقيس الحصة السوقية الجماعية لأكبر الشركات في أي قطاع، ارتفاعا كبيرا في الولايات المتحدة والعديد من الاقتصادات المتقدمة الأخرى منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي. وغالبا ما تكون هذه الشركات الشهيرة الكبيرة أكثر كثافة في رأس المال وأكثر تطورا من الناحية التكنولوجية من نظيراتها الأصغر حجما.
ومرة أخرى، هناك سيناريوهان متباينان لأثر الذكاء الاصطناعي.
مستقبل عالي التركز
في السيناريو الأول، يزداد التركز الصناعي، وتستخدم أكبر الشركات فقط الذكاء الاصطناعي بشكل مكثف في أعمالها الأساسية. ويمكّن الذكاء الاصطناعي هذه الشركات من أن تصبح أكثر إنتاجية وربحية وأكبر من منافسيها. ويصبح تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي أكثر تكلفة من أي وقت مضى، من حيث القوة الحسابية الخام، وهي تكلفة أولية هائلة لا يستطيع أن يتحملها سوى الشركات الكبرى، بالإضافة إلى أنها تتطلب التدريب على مجموعات البيانات الضخمة، والتي تمتلكها الشركات الكبيرة بالفعل بسبب العدد الكبير لعملائها ولا تمتلكها الشركات الصغيرة. وعلاوة على ذلك، بعد تدريب نموذج الذكاء الاصطناعي وإنشائه، قد يكون تشغيله مكلفا. وعلى سبيل المثال، تكلف تدريب نموذج GPT-4 أكثر من 100 مليون دولار أثناء تطويره الأولي ويتطلب تشغيله حوالي 700 ألف دولار يوميا. وقريبا، يمكن أن تصل التكلفة المعيارية لتطوير نموذج كبير للذكاء الاصطناعي إلى مليارات الدولارات. ويتوقع المسؤولون التنفيذيون في شركات الذكاء الاصطناعي الرائدة أن القوانين العلاقية التي تظهر علاقة قوية بين الزيادات في تكاليف التدريب وتحسين الأداء ستستمر في المستقبل القريب، مما يمنح ميزة للشركات التي تمتلك أكبر الميزانيات وأكبر مجموعات البيانات.
وربما تكون الشركات الكبرى وشركاؤها التجاريون فقط هم من يقومون بتطوير الذكاء الاصطناعي ذي الملكية الحصرية، على النحو الذي قامت به شركات مثل Alphabet وMicrosoft وOpenAI بالفعل ولكن لم تقم بذلك الشركات الأصغر حجما. وبالتالي تصبح الشركات الكبيرة أكبر حجما.
والأمر الأقل وضوحا، لكنه قد يكون الأكثر أهمية، هو أنه حتى في عالم لا يتطلب فيه الذكاء الاصطناعي ذو الملكية الحصرية تكلفة ثابتة كبيرة لا تستطيع تحملها سوى الشركات الكبرى، فقد يظل الذكاء الاصطناعي يحقق فائدة غير متناسبة لصالح الشركات الكبرى، من خلال مساعدتها على تنسيق عملياتها التجارية المعقدة داخليا بشكل أفضل، وهو ما لا ينطبق على الشركات الأصغر والأبسط. و"اليد المرئية" لكبار المسؤولين التنفيذيين الذين يديرون الموارد داخل الشركات الكبرى التي يدعمها الآن الذكاء الاصطناعي تسمح للشركة بأن تصبح أكثر كفاءة، وهو ما يتعارض مع المزايا التي أوضحها هايك بشأن المعرفة المحلية التي تمتلكها الشركات الصغيرة في السوق اللامركزية.
مستقبل منخفض التركز
لكن في مستقبل التركز الصناعي المنخفض، تصبح نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر (مثل نموذج LLaMA التابع لشركة ميتا أو Koala التابع لشركة بيركلي) متاحة على نطاق واسع. ويُنشئ مزيج من الشركات الهادفة للربح وغير الهادفة للربح والأكاديميين والمبرمجين الأفراد نظاما إيكولوجيا حيويا مفتوح المصدر للذكاء الاصطناعي يتيح الوصول على نطاق واسع إلى نماذج الذكاء الاصطناعي التي جرى تطويرها. ويمنح ذلك الشركات الصغيرة إمكانية الوصول إلى تكنولوجيات الإنتاج الرائدة في الصناعة والتي لم يكن من الممكن الحصول عليها من قبل.
وأُشير إلى الكثير من ذلك في مذكرة داخلية تم تسريبها من شركة غوغل في مايو 2023، حيث قال أحد الباحثين إن "النماذج مفتوحة المصدر أسرع، وأكثر قابلية للتخصيص، وأكثر خصوصية، وأكثر قدرة من نظيراتها" من النماذج ذات الملكية الحصرية. وقال الباحث إنه يمكن للعديد من الأشخاص تكرار العمليات في النماذج الصغيرة مفتوحة المصدر بسرعة وينتهي بها الأمر بشكل أفضل من النماذج الخاصة الكبيرة التي يكررها فريق واحد ببطء، كما يمكن تدريب النماذج مفتوحة المصدر بتكلفة أقل. ومن وجهة نظر باحث شركة غوغل، قد ينتهي الأمر بالذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر إلى التفوق على النماذج باهظة الثمن ذات الملكية الحصرية.
وربما يكون الأمر أن الذكاء الاصطناعي يشجع أيضا هذا النوع من الابتكار اللامركزي الواسع النطاق الذي يزدهر بشكل أفضل عبر العديد من الشركات الصغيرة مقارنة بشركة كبيرة واحدة. فحدود الشركة ناتجة عن سلسلة من المفاضلات؛ والعالم الذي يحتاج فيه المزيد من المبتكرين المدعومين بالذكاء الاصطناعي إلى حقوق التحكم المتبقية في عملهم قد يكون عالما يقرر فيه المزيد من المبتكرين أنهم يفضلون أن يكونوا أصحاب شركات صغيرة بدلا من أن يكونوا موظفين في شركات كبيرة.
والنتيجة هي أن يبدأ الارتفاع الذي طال أمده في التركز الصناعي في الانهيار، لأن بعض الشركات الصغيرة الذكية تعمل على إغلاق الفجوة التكنولوجية مع نظيراتها الأكبر حجما أو حتى عكس اتجاه هذه الفجوة واستعادة المزيد من حصة السوق.
نحو جدول أعمال للسياسات
بالنسبة لكل مفترق طريق، يكون المسار الذي يؤدي إلى مستقبل أسوأ هو الذي ينطوي على أقل قدر من المقاومة ويؤدي إلى انخفاض نمو الإنتاجية، وزيادة فجوة عدم المساواة في توزيع الدخل، وارتفاع التركز الصناعي. وسيتطلب الوصول إلى المسار الجيد عند مفترق الطرق عملا شاقا، أي تدخلات ذكية على مستوى السياسات تساعد في تشكيل مستقبل التكنولوجيا والاقتصاد.
ومن المهم أيضا أن ندرك نقطة أوسع بشأن السياسات. فالكثير من الخطاب بشأن تنظيم الذكاء الاصطناعي يدور الآن حول نوع من النموذج الهيدروليكي: هل ينبغي أن يكون لدينا المزيد من الذكاء الاصطناعي أم الأقل منه، أم ينبغي حتى حظر الذكاء الاصطناعي. وتحدث هذه المناقشة عندما يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه شيء ثابت إلى حد ما، وله مستقبل محدد مسبقا. ويمكن أن يأتي الذكاء الاصطناعي سريعا أو بطيئا. ويمكن أن يكون هناك الأكثر أو الأقل منه، ولكن في الأساس هو ما هو عليه.
غير أنه إذا فهم صناع السياسات أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتطور في اتجاهات مختلفة، سيتم تقديم الخطاب في إطار مختلف. فكيف يمكن للسياسات أن تشجع أنواع الذكاء الاصطناعي التي تكمل العمل البشري بدلا من تقليده واستبداله؟ وما هي الخيارات التي ستشجع تطوير الذكاء الاصطناعي الذي يمكن للشركات من جميع الأحجام الوصول إليه، بدلا من الشركات الكبرى فقط؟ وما هو نوع النظام الإيكولوجي مفتوح المصدر الذي قد يتطلبه ذلك، وكيف يدعمه صناع السياسات؟ وكيف ينبغي لمختبرات الذكاء الاصطناعي أن تتعامل مع تطوير النماذج، وكيف ينبغي للشركات أن تتعامل مع تنفيذ الذكاء الاصطناعي؟ وكيف يمكن للمجتمع أن يحصل على ذكاء اصطناعي يطلق عنان الابتكار الجذري، بدلا من ذكاء اصطناعي يدخل تعديلات طفيفة على السلع والخدمات والنظم القائمة؟
ولدى العديد من الجهات الفاعلة المختلفة القدرة على التأثير على اتجاه مستقبل الذكاء الاصطناعي. وسيتعين على الشركات الكبرى أن تتخذ قرارات مهمة بشأن اختيار الطريقة التي تدمج بها الذكاء الاصطناعي في قوتها العاملة. وستقوم أكبر هذه الشركات أيضا بتطوير الذكاء الاصطناعي داخليا. وستعمل مختبرات الذكاء الاصطناعي/علوم الحاسوب في الجامعات أيضا على تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، وستجعل بعضها مفتوحة المصدر. وسيكون لهيئات التشريع والتنظيم الفيدرالية أثر كبير، وكذلك الحال بالنسبة لهيئات التشريع والتنظيم المحلية. والناخبون لديهم صوت. ويجب على النقابات العمالية أن تحدد نوع العلاقة التي تريدها مع الذكاء الاصطناعي وما ستكون مطالبها.
وعلى الرغم من أننا رسمنا عددا من السيناريوهات المستقبلية المحتملة للذكاء الاصطناعي، فإننا لا نريد التأكيد على مدى عدم القدرة على التنبؤ بمستقبل هذه التكنولوجيا فحسب، ولكن أيضا على دور المجتمع في تحديد، بشكل فعال وجماعي، مستقبل الذكاء الاصطناعي الذي سينشأ.
وقد طرحنا من الأسئلة أكثر مما أجبنا عنه، وهو ما يعكس جزئيا المرحلة الناشئة من تبني الذكاء الاصطناعي وأثره. ولكن ذلك يعكس أيضا اختلالا أعمق في التوازن بين الجهود البحثية التي تمضي قدما بحدود التكنولوجيا وبين البحوث المحدودة التي تهدف إلى فهم العواقب الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على هذه التكنولوجيا.
وقد كان هذا الاختلال أقل أهمية عندما كانت للتكنولوجيا عواقب محدودة على الاقتصاد الكلي. ولكن اليوم، الذي يرجح أن تصل فيه تأثيرات الذكاء الاصطناعي على المجتمع إلى تريليونات الدولارات، ينبغي استثمار قدر أكبر بكثير في البحوث المتعلقة باقتصاديات الذكاء الاصطناعي. ويحتاج المجتمع إلى الابتكارات في فهم الجوانب الاقتصادية والسياسات التي تتناسب مع حجم ونطاق إنجازات الذكاء الاصطناعي ذاته. ويمكن لإعادة توجيه أولويات البحث ووضع خطة أعمال ذكية بشأن السياسات مساعدة المجتمع على التحرك نحو مستقبل يتمتع بنمو اقتصادي مستدام وشامل للجميع.
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.