تنزيل ملف PDF

البنوك المركزية الأكثر تركيزا والأقل تدخلا يُرجَّح أن تحقق نتائج أفضل

مسؤولو البنوك المركزية في البلدان الصناعية أخفقوا بشدة حسب تقدير الرأي العام. فمنذ وقت ليس ببعيد كانوا يُعتبرون أبطالا يدعمون النمو الهزيل باستخدام سياسات نقدية غير تقليدية، ويشجعون توظيف الأقليات من خلال السماح بقليل من السخونة في سوق العمل، بل يحاولون كبح تغير المناخ، ودائما ما ينتقدون أعضاء الهيئات التشريعية المتخاذلين لتقصيرهم في عمل المزيد. أما الآن فهم متهمون بإفشال أهم مهمة منوطة بهم، وهي الحفاظ على انخفاض التضخم واستقراره. وفي محاولة تشوبها الانتهازية، يسعى الساسة الذين لا يثقون في السلطة غير المنتخبة إلى إعادة النظر في التفويضات الممنوحة للبنك المركزي.

فهل أساءت البنوك المركزية فهْم الأمر برمته؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي ينبغي أن تفعله؟

الحجج المساندة لمسؤولي البنوك المركزية

سأبدأ أولا بأسباب التماس العذر للبنوك المركزية. فقد اتضحت الرؤية، بالطبع، بعد انقضاء الأحداث. إذ كانت الجائحة غير مسبوقة، وكان التنبؤ بعواقبها على الاقتصاد المعولم أمرا بالغ الصعوبة. ولم يكن من السهل التنبؤ باستجابة المالية العامة، التي ربما كانت أكثر سخاء مما ينبغي لأن أعضاء الهيئات التشريعية لم يتمكنوا تحت تأثير الاستقطاب من الاتفاق معا على من يتعين استبعادهم من الدعم. واعتقد قليلون أن فلاديمير بوتين سيخوض الحرب في فبراير 2022، مما يؤدي إلى مزيد من الانقطاعات في سلاسل الإمداد ويرفع أسعار الطاقة والغذاء إلى مستويات مفرطة.

ولا شك أن تحرك مسؤولي البنوك المركزية شابه البطء إزاء دلائل التضخم المتزايدة. ومن أسباب ذلك ظنهم أنهم لا يزالون في نظامِ ما بعد الأزمة المالية لعام 2008 عندما كان كل ارتفاع سعري حاد، حتى في سعر النفط، يؤثر بالكاد على المستوى العام للأسعار. وفي محاولة لرفع التضخم شديد الانخفاض، ذهب بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى حد تغيير إطاره النقدي أثناء الجائحة، معلنا أنه سيكون أقل استجابةً للتضخم المتوقع وسيواصل انتهاج سياسات نقدية أكثر تيسيرا لفترة طويلة. وكان هذا الإطار مناسبا لحقبة تتسم بانخفاض الطلب وضعف التضخم لأسباب هيكلية، غير أن اعتماده خاطئ تماما في وقت كان التضخم فيه على وشك الانطلاق وكل زيادة سعرية كانت تطلق شرارة زيادة أخرى. لكن من كان يعلم أن الزمن كان يشهد تغيرا جاريا على قدم وساق؟

وحتى مع التبصر الكامل بمجريات الأمور، فربما كان تحرك مسؤولي البنوك المركزية – وهم في الواقع ليسوا أفضل اطِّلاعا من المتعاملين المحنكين في السوق – سيظل أبطأ نسبيا لأسباب مفهومة. فالبنك المركزي يعمل على تهدئة التضخم من خلال إبطاء النمو الاقتصادي. وينبغي أن تكون سياساته معقولة في نظر الرأي العام، وإلا فسوف يفقد استقلاليته. وبعد أن أنفقت الحكومات تريليونات لدعم اقتصاداتها، وتعافى التوظيف لتوه من مستويات منخفضة بالغة السوء، وبات التضخم ملحوظا بالكاد لأكثر من عقد من الزمان، لم يكن رفع أسعار الفائدة أمرا يمكن أن يُقْدِم عليه أي مسؤول في بنك مركزي إلا المجازف غير العابئ بتبعات قطع الطريق على النمو في حالة تأخر الجمهور في ملاحظة خطر التضخم. وبعبارة أخرى، إن الرفع الوقائي لأسعار الفائدة لدرجة إبطاء النمو كان سيفتقر إلى الشرعية الجماهيرية - وخاصة إذا نجح البنك في هذا الإجراء ولم يرتفع التضخم بعده، بل سيكون فقدان هذه الشرعية أكبر إذا خَفَّض أسعار الأصول المالية المبالغ فيها التي كانت تبث في الجمهور شعورا بالرفاهية. فقد كانت البنوك المركزية بحاجة إلى أن يلحظ الجمهور ارتفاع التضخم حتى تتمكن من اتخاذ تدابير قوية لمواجهته.

والخلاصة هي أن أيدي البنوك المركزية كانت مغلولة من جوانب مختلفة – بفعل التاريخ الحديث وما لديها من معتقدات، وبفعل الأطر التي اعتمدتها لمكافحة التضخم المنخفض، وبفعل سياسة اللحظة، مع تأثير كل عامل من هذه العوامل على العوامل الأخرى.

الحجج المضادة

ومع ذلك، فإن توقف التقييم اللاحق عند هذا الحد ربما يكون مفرطا في السخاء تجاه البنوك المركزية. فالنتيجة النهائية هي أن إجراءاتها السابقة قلصت مساحة المناورة المتاحة لها، وليس فقط للأسباب المشار إليها آنفا. لنأخذ مثلا ظهور كل من هيمنة سياسة المالية العامة (التي يعمل فيها البنك المركزي على استيعاب الإنفاق المالي للحكومة) وهيمنة القطاع المالي (حيث يرضخ البنك المركزي لمتطلبات السوق). ومن الواضح أنهما ليستا منفصلتين عن إجراءات البنك المركزي في السنوات القليلة الماضية.

البنوك المركزية يمكن أن تذهب إلى أنها فوجئت بالأحداث الأخيرة، غير أنها ساهمت بدور في تضييق حيز المناورة أمام سياستها النقدية.

وتؤدي الفترات الطويلة لانخفاض أسعار الفائدة وارتفاع السيولة إلى زيادة أسعار الأصول والرفع المالي المصاحب لها. وقد زاد الرفع المالي من جانب كل من الحكومة والقطاع الخاص. وكانت الجائحة وحرب بوتين مسؤولتين، بالطبع، عن زيادة الإنفاق الحكومي. لكن هذه الزيادة جاءت أيضا نتيجة للتدني المفرط في أسعار الفائدة طويلة الأجل وأسعار سوق السندات التي خدَّرتها إجراءات البنك المركزي مثل التيسير الكمي. وقد كان هناك ما يدعو بالفعل إلى تمويل الإنفاق الحكومي المستهدَف بإصدار دين طويل الأجل. ومع ذلك، فإن خبراء الاقتصاد الحكماء من مؤيدي الإنفاق لم يرفقوا توصياتهم بالمحاذير الكافية، وعملت الاعتبارات السياسية المشوبة بالانقسامات على ضمان أن يكون الإنفاق الوحيد الذي يمكن تشريعه هو الذي يقدم شيئا لكل طرف. واعتمد الساسة، كما هو الحال دائما، على نظريات غير سليمة ولكنها ملائمة (منها النظرية النقدية الحديثة) تسمح لهم بالإنفاق دون كابح.

وفاقمت البنوك المركزية المشكلة من خلال شرائها للدين الحكومي بتمويل من الاحتياطيات التي تقدَّم لليلة واحدة، مما قصّر من أجل استحقاق التمويل المقدم للميزانيات العمومية الموحدة للحكومة والبنك المركزي. ويعني هذا أنه مع ارتفاع أسعار الفائدة، يُرجَّح أن تزداد إشكالية مالية الحكومة - وخاصة بالنسبة للبلدان بطيئة النمو المثقلة بدين كبير. ذلك أن اعتبارات المالية العامة تمثل عبئا على سياسات بعض البنوك المركزية بالفعل – فالبنك المركزي الأوروبي، على سبيل المثال، يشعر بالقلق حيال تأثير إجراءاته النقدية على "تشتت" أسعار الفائدة، حيث ترتفع عوائد ديون البلدان ذات الماليات العامة الضعيفة مقارنةً بمثيلاتها في البلدان القوية. وعلى أقل تقدير، ربما كان ينبغي للبنوك المركزية أن تدرك الطبيعة المتغيرة للسياسة التي جعلت إطلاق العنان للإنفاق احتمالا أرجح في الاستجابة للصدمات، حتى وإن لم تتوقع حدوث صدمات. وربما يكون ذلك قد جعلها أكثر قلقا بشأن كبح أسعار الفائدة طويلة الأجل واعتماد أسعار فائدة أساسية منخفضة لفترة طويلة.

وقد زاد القطاع الخاص أيضا من نسب الرفع المالي سواء على مستوى الأسر (أستراليا وكندا والسويد) أو الشركات. غير أن هناك مصدر قلق جديدا آخر تم إغفاله إلى حد كبير - ألا وهو الاعتماد على السيولة. فنظرا لأن بنك الاحتياطي الفيدرالي ضخ احتياطيات أثناء التيسير الكمي، قامت البنوك التجارية بتمويل الاحتياطيات بأموال جاء معظمها من ودائع الجملة الموجودة تحت الطلب، وهو ما قصّر بالفعل من آجال استحقاق التزاماتها. وبالإضافة إلى ذلك، ولتوليد رسوم من الكم الكبير من الاحتياطيات ذات العائد المنخفض الموجودة في ميزانياتها العمومية، قدمت للقطاع الخاص كل أنواع الوعود بتوفير السيولة – من خلال الالتزام بخطوط ائتمان، ودعم الهامش لمراكز المضاربة، وما إلى ذلك.

والمشكلة هي أنه بينما يقلِّص البنك المركزي ميزانيته العمومية، يصعب على البنوك التجارية الاستغناء عن هذه الوعود بسرعة. ويصبح القطاع الخاص أشد اعتمادا على البنك المركزي للحصول على سيولة مستمرة. وقد رأينا أول لمحة من هذه المشكلة أثناء الاضطرابات التي شهدتها المملكة المتحدة بشأن معاشات التقاعد في أكتوبر 2022، والتي نُزِع فتيلها بمزيج من تدخل البنك المركزي وتراجع الحكومة عن خططها الباذخة للإنفاق. غير أن هذه الأحداث أشارت بالفعل إلى أن قطاعا خاصا معتمدا على السيولة قد يكون بمقدوره التأثير على خطط البنك المركزي لتقليص ميزانيته العمومية بغية الحد من التيسير النقدي.

وأخيرا، فإن ارتفاع أسعار الأصول يثير شبح عدم الاتساق في استجابات البنوك المركزية – ذلك أن البنك المركزي يكون أسرع توجها نحو التيسير في حالة تباطؤ النشاط أو هبوط أسعار الأصول، وأكثر ترددا في الاتجاه إلى رفع أسعار الفائدة عند تصاعد أسعار الأصول، وهو يجذب النشاط في اتجاه حركته. ومصداقا لذلك، قال ألان غرينسبان عام 2002 في كلمة ألقاها في قاعة مؤتمرات "جاكسون هول" ببنك الاحتياطي الفيدرالي في كانساس سيتي إن الاحتياطي الفيدرالي لا يفطن بالفعل إلى طفرات أسعار الأصول أو يحول دون وقوعها، لكنه يستطيع "التخفيف من تداعياتها حين تقع، كما أن من المأمول أن يستطيع تيسير الانتقال إلى مرحلة التوسع التالية"، وهو بذلك قد أرسى عدم الاتساق بوصفه قاعدة من قواعد سياسة الاحتياطي الفيدرالي.

ويشير ارتفاع أسعار الأصول، وزيادة نسب الرفع المالي في القطاع الخاص، والاعتماد على السيولة، إلى أن البنك المركزي يمكن أن يواجه هيمنة القطاع المالي – أي أن السياسة النقدية قد تستجيب للتطورات المالية في القطاع الخاص وليس للتضخم. وبصرف النظر عما إذا كان الاحتياطي الفيدرالي يعتزم الخضوع للهيمنة، فإن تنبؤات القطاع الخاص الحالية، التي تشير إلى أنه سيضطر إلى خفض أسعار الفائدة بسرعة، قد صعَّبت مهمته في إلغاء التيسير النقدي. فسيكون عليه أن يعتمد سياسة أكثر تشددا لمدة أطول مما كان يتوخاه في غياب هذه التوقعات الخاصة. ويعني هذا عواقب أسوأ على الاقتصاد العالمي. ويعني أيضا أنه حين تصل أسعار الأصول إلى مستواها التوازني الجديد، فإن الأسر وصناديق التقاعد وشركات التأمين ستكون قد تعرضت جميعها لخسائر فادحة – علما بأن هذه الكيانات لا تكون في الغالب هي نفسها التي استفادت من الارتفاع. وتُدفَع صناديق التقاعد التابعة للدولة والتي تديرها جهات حكومية، والبسطاء من الناس، والفقراء نسبيا، إلى المرحلة الأخيرة في طفرات أسعار الأصول، وهو ما يسفر عن عواقب توزيعية إشكالية يتحمل البنك المركزي بعض المسؤولية عنها.

والتداعيات الخارجية لسياسات البنك المركزي في بلدان الاحتياطي هي أحد المجالات التي لا تخلو من العواقب، لكن مسؤولي البنك المركزي لا يتحملون سوى مسؤولية ضئيلة عنها. فلا شك أن سياسات البلدان الرئيسية الأكثر امتلاكا للاحتياطيات تؤثر على البلدان الهامشية عن طريق تدفقات رأس المال وتحركات أسعار الصرف. ويجب أن تصدر ردود فعل عن البنك المركزي في البلدان الهامشية بصرف النظر عما إذا كانت إجراءات سياسته مناسبة للظروف المحلية – وإلَّا فإن البلد الهامشي سيعاني من عواقب أطول أجلا مثل طفرات أسعار الأصول، والاقتراض المفرط، ثم المديونية الحرجة في نهاية المطاف. وسأعود إلى هذه المسألة في الختام.

الخلاصة إذن هي أن البنوك المركزية يمكن أن تذهب إلى أنها فوجئت بالأحداث الأخيرة، غير أنها ساهمت بدور في تضييق حيز المناورة أمام سياساتها النقدية. ففي ظل سياساتها غير المتسقة وغير التقليدية، التي تهدف ظاهريا إلى التعامل مع سعر الفائدة الأساسي الذي يلامس الحد الأدنى، خلقت مجموعة من الاختلالات لا تزيد من صعوبة مكافحة التضخم فحسب، بل تزيد أيضا من صعوبة التخلي عن مزيج السياسات السائد، حتى مع تحول نظام التضخم إلى معدلات أعلى بكثير. والبنوك المركزية ليست متفرجا بريئا في كل هذه الأحداث مثلما يتم تصويرها أحيانا.

تجاوز نطاق الاختصاص

فما الذي سيحدث الآن؟ مسؤولو البنوك المركزية يعرفون جيدا كيف تكون المعركة ضد ارتفاع التضخم ولديهم الأدوات اللازمة لمكافحته. وينبغي أن تُترَك لهم الحرية في أداء وظيفتهم بهذا الخصوص.

غير أن البنوك المركزية حين تنجح في خفض التضخم، قد تعود إلى عالم النمو المنخفض. فمن الصعب معرفة ما يمكن أن يوازن التأثيرات المعاكسة لشيخوخة السكان، وتباطؤ النشاط في الصين، والعالم المريب الذي يشهد تحولا نحو العسكرة والتراجع عن العولمة. وهذا العالم الذي يتسم بالنمو المنخفض وربما التضخم المنخفض هو عالم لا يفهمه مسؤولو البنوك المركزية جيدا. وأدواتهم التي استخدموها بعد الأزمة المالية، مثل التيسير الكمي، لم تكن فعالة بدرجة كبيرة في تعزيز النمو، كما أن الإجراءات الحادة من جانب البنوك المركزية يمكن أن تعجل بزيادة هيمنة المالية العامة والقطاع المالي.

إذن ما الذي ينبغي أن تكون عليه صلاحيات البنك المركزي عندما يسود الاستقرار من جديد؟ البنوك المركزية ليست المؤسسات المتعارف عليها لمكافحة تغير المناخ أو تعزيز الاشتمال، وغالبا ما تفتقر إلى صلاحية معالجة هذه المسائل. وبدلا من أن تنتزع الصلاحيات في مجالات مشحونة سياسيا، من الأفضل أن تنتظر الحصول عليها من ممثلي الشعب المنتخبين. ولكن هل من الحكمة منح البنوك المركزية صلاحيات في هذه المجالات؟ أولا: أدوات البنك المركزي لها فعالية محدودة في مجالات مثل مكافحة تغير المناخ أو عدم المساواة. ثانيا: هل يمكن أن تؤثر المسؤوليات الجديدة على فعالية البنك في تحقيق الهدف من صلاحيته (أو صلاحياته) الأساسية؟ فمثلاً: هل يمكن أن يكون الإطار الجديد الذي وضعه الاحتياطي الفيدرالي والذي يقتضي منه توجيه الاهتمام إلى مسألة الاشتمال قد أعاق زيادات أسعار الفائدة – بما أن الأقليات المحرومة عادة، ولسوء الحظ، هي آخر من يتم تعيينه في فترات التوسع؟ وأخيرا: هل يمكن لهذه الصلاحيات الجديدة أن تُعرِّض البنك المركزي لمجموعة جديدة كاملة من الضغوط السياسية وتدفع لظهور أشكال جديدة من المخاطرة غير المسؤولة من جانبه؟ ولا يعني كل هذا أن البنوك المركزية ينبغي ألا تشعر بالقلق تجاه عواقب تغير المناخ أو عدم المساواة على صلاحيتها (أو صلاحياتها) المباشرة. بل إن بإمكانها اتباع التعليمات الصريحة الصادرة عن الممثلين المنتخبين في بعض المسائل (مثل شراء السندات الخضراء بدلا من السندات البُنّية عند التدخل في الأسواق)، وإن كان ذلك يفتح أبوابها أمام خطر إدارة التفاصيل من الخارج. غير أن الأفضل هو أن تُترَك للحكومة وليس للبنك المركزي مهمة المكافحة المباشرة لتغير المناخ أو عدم المساواة.

ولكن ماذا عن صلاحيتها وأطرها فيما يتعلق باستقرار الأسعار؟ أشارت المناقشة السابقة إلى وجود تناقض أساسي يواجه البنوك المركزية. وحتى ذلك الحين، كان هناك شعور بحاجة البنوك المركزية لإطار واحد – مثل إطار استهداف التضخم الذي يلزمها بإبقاء التضخم ضمن نطاق مستهدف أو قريبا من هدف محدد على نحو متسق. لكن، كما يرى المدير العام لبنك التسويات الدولية، أغستين كارستنز، فإن نظام التضخم المنخفض يمكن أن يكون مختلفا تماما عن نظام التضخم المرتفع. واعتمادا على النظام الذي تتبعه، قد يحتاج إطارها إلى التغيير. ففي نظام التضخم المنخفض، حيث لا يتزحزح التضخم عن المستويات المنخفضة بصرف النظر عن صدمة الأسعار، قد يتعين عليهم الالتزام بتحمل المزيد من التضخم في المستقبل بغية رفع معدلاته اليوم. وبعبارة أخرى، كما قال بول كروغمان، عليهم التعهد بأن يتخلوا عن المسؤولية العقلانية، أي أن يتبنوا سياسات وأطرا تكبل أيديهم فعليا، فتلزمهم باتباع سياسة تيسيرية لفترة طويلة. ولكن كما ورد أعلاه، قد يعجِّل هذا بتغيير النظام، على سبيل المثال، من خلال تخفيف قيود المالية العامة المتصورة.

وعلى العكس من ذلك، ففي نظام التضخم المرتفع، حيث تدفع كل صدمة سعرية صدمة أخرى، تحتاج البنوك المركزية إلى التزام قوي باستئصال جذور التضخم في أسرع وقت ممكن، وتوخي القول القائل: "إذا حدقت طويلا في التضخم، سيكون قد فات الأوان". وبالتالي فإن الالتزام بتحمل التضخم كما يُملي الإطار ويتماشى مع نظام التضخم المنخفض لا يتوافق مع الالتزام المطلوب لنظام التضخم المرتفع. غير أن البنوك المركزية يتعذر عليها التحول ببساطة تبعا للنظام، لأنها تفقد القوة على الالتزام. وقد يتعين عليها اختيار إطار لجميع الأنظمة.

اختيار الأُطر

إذا كان الأمر كذلك، فإن ميزان المخاطر يشير إلى ضرورة أن تعيد البنوك المركزية تركيز صلاحياتها على مكافحة التضخم المرتفع باستخدام الأدوات المتعارف عليها مثل سياسة أسعار الفائدة. ولكن ماذا يحدث إذا كان التضخم شديد الانخفاض؟ ربما ينبغي لنا أن نتعلم، مثلما فعلنا في سياق كوفيد-19، كيف نتعايش مع هذا التضخم ونتجنب أدوات مثل التيسير الكمي بآثارها المشكوك في إيجابيتها على النشاط الحقيقي، والتي تتسبب في تشويه الائتمان وأسعار الأصول والسيولة، ومن الصعب التخلص منها. ويمكن القول بأنه مادام التضخم المنخفض لم يصل إلى الانهيار مُسبِّبا دوامة انكماشية، فلا ينبغي للبنوك المركزية أن تقلق كثيرا حيال ذلك. فعقود التضخم المنخفض لم تكن المسؤولة عن تباطؤ النمو وإنتاجية العمالة في اليابان. بل إن اللوم في ذلك يقع على شيخوخة السكان وتقلص القوى العاملة.

وليس من الإيجابي تعقيد مهمة البنوك المركزية، غير أنها قد تحتاج إلى صلاحية أقوى للمساعدة في الحفاظ على الاستقرار المالي. فأولا: غالبا ما تؤدي الأزمة المالية إلى خفض التضخم على نحو مفرط حتى أن البنوك المركزية تجد صعوبة في مكافحته. ثانيا: إن الطرق التي عادة ما تلجأ إليها البنوك المركزية في مواجهة الفترات الممتدة من التضخم المفرط في الانخفاض تتسبب، كما رأينا، في ارتفاع أسعار الأصول، ومن ثم زيادة الرفع المالي وإمكانية حدوث المزيد من عدم الاستقرار المالي. ولسوء الحظ، وبرغم أن المنظّرين في مجال السياسة النقدية يذهبون إلى أن الحل الأمثل هو التعامل مع قضايا الاستقرار المالي من خلال الرقابة الاحترازية الكلية، وهو ما ثبت افتقاره إلى الفعالية حتى الآن - كما يتبين من طفرات أسعار المساكن في الاقتصادات الرئيسية. وعلاوة على ذلك، فقد يكون للسياسات الاحترازية الكلية تأثير ضئيل في مجالات النظام المالي الجديدة أو البعيدة عن البنوك، كما يتضح من فقاعات العملات المشفرة وأسهم "الميم" وانفجارها اللاحق. وبينما نحتاج إلى تغطية أفضل للنظام المالي، خاصة نظام الظل المالي غير المصرفي، إلى جانب التنظيم الاحترازي الكلي، يجب أن نتذكر أيضا أن السياسة النقدية "تتخلل كل الشقوق"، على حد تعبير جيريمي شتاين. وربما إذن، مع هذه القوة الهائلة، ينبغي أن تأتي بعض المسؤولية!

ولكن ماذا بشأن المسؤوليات عن العواقب الخارجية لسياساتها؟ من المثير للاهتمام أن البنوك المركزية الأكثر تركيزا على الاستقرار المالي المحلي من المرجح أن تعتمد سياسات نقدية تتسبب في قدر أقل من التداعيات. ومع ذلك، ينبغي أن يبدأ مسؤولو البنوك المركزية والأكاديميون حوارا حول التداعيات. ومن الممكن أن يبدأ حوار بعيد في معظمه عن السياسة في بنك التسويات الدولية في بازل، حيث يجتمع محافظو البنوك المركزية بانتظام. ومن الممكن أن ينتقل الحوار في النهاية إلى صندوق النقد الدولي، بحيث يشارك فيه ممثلو الحكومات وعدد أكبر من البلدان، لمناقشة كيفية تغيير صلاحيات البنوك المركزية في عالم يتسم بالاندماج. وإلى أن يقام هذا الحوار ويتم التوصل إلى توافق سياسي في الآراء حول الصلاحيات، قد يكون كافيا إعادة تركيز البنوك المركزية على مهمتها الأساسية المتمثلة في مكافحة التضخم المرتفع، مع مراعاة المهمة الثانية المتمثلة في الحفاظ على الاستقرار المالي.

فهل تؤدي هاتان الصلاحيتان التوأمتان إلى الحكم على العالم بالمعاناة من النمو المنخفض؟ لا، غير أنهما ستضعان مسؤولية إنعاش النمو من جديد على عاتق القطاع الخاص والحكومات، وهو مناط المسؤولية الصحيح. ومن المرجح أن تحقق البنوك المركزية الأكثر تركيزا والأقل تدخلا نتائج أفضل من نتائج عالم التضخم المرتفع والرفع المالي المكثف والنمو المنخفض الذي نعيش فيه حاليا. وبالنسبة للبنوك المركزية، فإن ما هو أقل قد يعني بالفعل ما هو أكثر.

راغورام راجان أستاذ في كلية بوث بجامعة شيكاغو، وكان يشغل في السابق منصب محافظ لبنك الاحتياطي الهندي ويعمل كمستشار اقتصادي في صندوق النقد الدولي.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.