أكثر كفاءة أم أكثر تقلبا؟ من شأن استخدام أحدث إصدارات الذكاء الاصطناعي في الأسواق المالية أن يساهم في تعزيز إدارة المخاطر وتعميق السيولة، ولكنه قد يؤدي أيضا إلى انعدام الشفافية في الأسواق والمزيد من الصعوبة في الرقابة عليها وانكشافها للمزيد من الهجمات السيبرانية ومخاطر التلاعب.
ويحلل العدد الجديد من تقرير الاستقرار المالي العالمي مجموعة من البيانات السوقية الجديدة لفهم توجهات هذه التكنولوجيا. وتواصل خبراء الصندوق مع عدد كبير من مختلف الأطراف – بداية من المستثمرين وحتى مقدمي خدمات التكنولوجيا والهيئات المنظمة للأسواق – للوقوف على كيفية استفادة المؤسسات المالية من تطورات الذكاء الاصطناعي في أنشطة الأسواق المالية، والتأثير المحتمل لاستخدام هذه التكنولوجيات.
وتستخدم صناديق التحوط وبنوك الاستثمار وغيرها استراتيجيات التداول الكمي منذ عدة عقود. وقد ساعدت خوارزميات التداول الآلي الأسواق في العمل بمزيد من السرعة واستيعاب الكثير من عمليات التداول بكفاءة أكبر عبر فئات الأصول الرئيسية، مثل الأسهم الأمريكية. غير أنها ساهمت أيضا في حدوث "انهيارات مفاجئة" إثر تقلبات عنيفة في أسعار السوق خلال فترات زمنية قصيرة للغاية – على غرار ما حدث في مايو 2010 عندما انهارت أسعار الأسهم الأمريكية لتعاود الارتفاع بعدها بدقائق قليلة – وهناك مخاوف من أنها قد تؤدي إلى زعزعة استقرار الأسواق خلال فترات اشتداد الضغوط وعدم اليقين.
ويُتوقع أن يساهم الذكاء الاصطناعي، من خلال قدرته على المعالجة شبه الفورية لكم كبير من البيانات وأيضا النصوص التي يستخدمها المتداولون، في إحداث طفرة على صعيد هذه التطورات. ولكن بالرغم من أن تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي التوليدي وغيرها من الابتكارات الحديثة أصبحت مثار اهتمام في الصحافة العامة والأسواق المالية، فإن استخداماتها الفعلية في أوساط المستثمرين لا تزال محدودة حتى الآن. وإذا ما كنا في بداية عصر التحول القائم على الذكاء الاصطناعي، إلى أين نتجه؟
وطلبات تسجيل براءات الاختراع وسيلة جيدة لفهم ذلك، نظرا لوجود فاصل زمني طويل في الغالب بين تقديم الطلبات وصدور التكنولوجيا الفعلية الجاهزة للاستخدام. ومنذ بداية ظهور نماذج اللغة الكبيرة في عام 2017، ارتفع نصيب محتوى الذكاء الاصطناعي في طلبات تسجيل براءات الاختراع المرتبطة بالتداول الخوارزمي من 19% في عام 2017 إلى أكثر من 50% سنويا منذ عام 2020، مما يشير إلى أن هذا المجال سيشهد موجة هائلة من الابتكارات.
وستساهم هذه الابتكارات الجديدة على الأرجح في تعزيز قدرة الذكاء الاصطناعي على إعادة موازنة المحافظ الاستثمارية سريعا، وبالتالي في زيادة حجم التداول. وحسب الدراسة الاستقصائية التي أجراها خبراء الصندوق، يتفق المشاركون في الأسواق على أن التداول عالي التواتر المدعوم بالذكاء الاصطناعي يُتوقع أن يصبح أكثر استخداما، ولا سيما في فئات الأصول السائلة، مثل الأسهم، والسندات الحكومية، والمشتقات المدرجة في البورصة. ويتوقعون أن الذكاء الاصطناعي المتطور سيكون له دور أكبر في قرارات الاستثمار والتداول خلال السنوات الثلاث إلى الخمس القادمة، مع استمرار العمل بمنهج "تعلُّم الآلة تحت الإشراف البشري"، ولا سيما عند اتخاذ القرارات التي تنطوي على تخصيصات رأسمالية كبيرة.
وفي سوق الصناديق الاستثمارية المتداولة في البورصة، نرى شواهد على هذه التغيرات بالفعل. فرغم حجمها المحدود في الوقت الحالي، أحرزت الصناديق المدعومة بالذكاء الاصطناعي تقدما هائلا مقارنة بغيرها من حيث إجمالي حجم التعاملات. ففي الصناديق الاستثمارية التقليدية التي تطبق مفهوم الإدارة النشطة، يبلغ إجمالي حجم التعامل على الحيازات أقل كثيرا من مرة واحدة سنويا، مقابل مرة كل شهر تقريبا في الصناديق المدعومة بالذكاء الاصطناعي. وحال انتشارها، قد تؤدي هذه الاستراتيجيات مستقبلا إلى أسواق أكثر عمقا وسيولة، وهو أمر جيد للمستثمرين، ولكنها قد تساهم أيضا في زعزعة استقرار الأسواق. فخلال الاضطرابات السوقية في مارس 2020، ازداد إجمالي حجم التعاملات في عدد من الصناديق الاستثمارية المتداولة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مما يشير إلى إمكانية تزايد عمليات البيع الجماعي خلال فترات الضغوط فيما يشبه سلوك القطيع.
وقد يساهم استخدام الذكاء الاصطناعي بالأسواق في سرعة استجابة الأسعار للمستجدات. وأشار المستثمرون إلى صدور محاضر اجتماعات الاتحاد الفيدرالي المعقدة والطويلة كمثال، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي إعطاء إشارات لتوجيه عمليات التداول أسرع من أي متداول بشري. وربما يحدث ذلك بالفعل حاليا. فمنذ عام 2017 واستحداث نماذج اللغة الكبيرة، يبدو أن حركة أسعار الأسهم الأمريكية بعد 15 ثانية من صدور محاضر اجتماعات الاحتياطي الفيدرالي تتسق مع الاتجاه متوسط الأجل للتحركات الملاحظة بعد 15 دقيقة، على عكس التحركات غير المترابطة على ما يبدو في عصر ما قبل نماذج اللغة الكبيرة.
من يمكن أن يستفيد من هذه التكنولوجيات الجديدة؟ الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى انتقال الاستثمارات إلى صناديق التحوط وشركات التداول الذاتي وغيرها من جهات الوساطة المالية غير المصرفية، مما قد يجعل الأسواق أقل شفافية ويزيد من صعوبة الرقابة عليها. وتتمتع المؤسسات غير المصرفية بميزة هيكلية في استخدام الذكاء الاصطناعي. فهي، بوجه عام، أكثر مرونة وتخضع لقيود تنظيمية أقل مقارنة بالبنوك التجارية والاستثمارية الكبرى التي غالبا ما يتعين عليها التعامل مع بنية تحتية متقادمة، وربما تخضع لمتطلبات أكثر صرامة، بما في ذلك ضمان سهولة تفسير نماذج الذكاء الاصطناعي المعقدة.
توصيات بشأن السياسات
كيف يمكن للجهات التنظيمية والإشرافية الاستعداد لهذا العالم الجديد؟ في سوق أسرع استجابة للمستجدات، حيث قد تتزايد أهمية المؤسسات غير المصرفية مع الوقت، يتعين تعزيز مختلف جوانب التنظيم والإشراف في المجالات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
وعلى سلطات القطاع المالي ومنصات التداول أن تحدد ما إذا كانت في حاجة إلى تصميم آليات جديدة للاستجابة للتقلبات – أو تعديل الآليات الحالية على النحو اللازم – للاستجابة إلى "الانهيارات المفاجئة" التي قد تنشأ في سياق عمليات التداول المدعومة بالذكاء الاصطناعي. وتشمل هذه الآليات متطلبات الهامش، وآليات وقف التداول، وصلابة الأطراف المقابلة المركزية.
وبالمثل، ينبغي أن تواصل سلطات القطاع المالي تشديد المتطلبات الرقابية والتنظيمية على جهات الوساطة المالية غير المصرفية من خلال إلزامها بالكشف عن هويتها والإفصاح عن أي معلومات ذات صلة بالذكاء الاصطناعي، إلى جانب إلزام المؤسسات المالية بإعداد خرائط بعلاقات الاعتماد المتبادل بين البيانات والنماذج والبنية التحتية التكنولوجية الداعمة لنماذج الذكاء الاصطناعي.
ومن خلال الرقابة والإشراف عن كثب على هذه السوق سريعة التغير، سيتسنى إرساء الأساس لاستجابة تنظيمية ملائمة ومتوازنة قد تسمح للمشاركين في القطاع المالي بالاستفادة من الذكاء الاصطناعي والحد من مخاطره.
— تستند هذه التدوينة إلى الفصل الثالث من عدد أكتوبر 2024 من تقرير الاستقرار المالي العالمي بعنوان "التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي: انعكاساته على أنشطة أسواق رأس المال"