علينا إيجاد منهج عادل للتمويل من أجل مستقبل يتسم بالصلابة في مواجهة تغير المناخ
بينما أقرأ عناوين الأخبار اليومية، لا يسعني إلا الإحساس بمشاعر الإلحاح والقلق بشأن كوكبنا. فالعدد غير المسبوق من الأحداث المناخية الكارثية – الفيضانات وموجات الحرارة الشديدة، والعواصف المدمرة، ونوبات الجفاف، وحرائق الغابات الخارجة عن السيطرة، وكلها مرتبطة بالنشاط البشري - يعرض حياة الناس للخطر، ويثير الاضطراب في الاقتصادات، ويُحدث الفوضى في العالم الطبيعي. ولم تكن الحاجة إلى العمل المناخي في أي وقت مضى أكثر إلحاحا مما هي عليه الآن، وتعتبر المناهج المبتكرة لتمويل تخفيف آثار انبعاثات الكربون والتكيف مع تغير المناخ غاية في الأهمية لمعالجة هذه المشكلات المتزايدة. وقد حان وقت الانتقال من مجرد الوعود والتعهدات إلى التنفيذ الفعلي، كما يجب توزيع الموارد بعدالة وسخاء – مع وضع الناس والكوكب في المقام الأول.
إن توسيع فرص الحصول على تمويل العمل المناخي يعد أمرا لا غنى عنه للتصدي بفعالية للطوارئ المناخية العالمية. فالأعاصير وموجات الحرارة الشديدة لا تعرف الحدود. ولكننا اليوم نجد أن تمويل العمل المناخي العالمي لا يتجاوز حدود الإقليم الواحد، وبالتالي لا يتماشى مع نطاق الأزمة وعواقبها، حيث يتم إنفاق ما يزيد على 75% من هذا التمويل في البلدان التي يتم جمعه فيها. ونتيجة لذلك، نجد أن العديد من المناطق المعرضة للخطر – بما في ذلك تلك التي ليس لها تأثير يُذكر على الاحترار العالمي في المقام الأول – لا تمتلك إلا فرصا محدودة للحصول على تمويل العمل المناخي.
فإفريقيا، على سبيل المثال، تساهم بأقل من 8% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري على مستوى العالم، لكنها تعاني من عدد كبير من المشكلات المرتبطة بالمناخ، بما في ذلك الندرة الشديدة في المياه، وارتفاع منسوب مياه البحار، والأمراض التي تتأثر بالمناخ. ومع ذلك، تحصل إفريقيا على أقل من 5,5% من تمويل العمل المناخي العالمي، رغم أن الأمم المتحدة تصفها بأنها منطقة شديدة التعرض للمخاطر. ولدى البلدان التزام أخلاقي مشترك بحماية البيئة العالمية، على النحو الذي يحدده مبدأ "المسؤوليات المشتركة وإن كانت متباينة ومراعاة قدرات كل طرف"، وهو الالتزام الذي تم إضفاء الطابع الرسمي عليه في قمة الأرض التي عقدتها الأمم المتحدة في ريو عام 1992. لكن ليست كل البلدان تمتلك نفس الموارد المالية، وليست كل البلدان تتحمل نفس القدر من المسؤولية عن الوضع الذي نعيش فيه حاليا.
إن الاستثمارات المناخية اللازمة لمنع التدهور الكارثي للبيئة هائلة الحجم، ومن المقدر أن تصل إلى 4,5 تريليون دولار سنويا بحلول عام 2030 وأن ترتفع إلى 6 تريليونات دولار سنويا بحلول عام 2050. أما اليوم، فلا يتم إنفاق سوى 632 مليار دولار فقط سنويا. إن هذه الأرقام صادمة، وخاصة بالنظر إلى أن حوالي 60% من احتياجات الاقتصادات النامية لم تُدرج ضمن مساهماتها المحددة وطنيا - التعهدات المتفق عليها في إطار اتفاق باريس – مما يجعل التعهدات البالغة 100 مليار دولار والمتفق عليها في عام 2009 في الدورة الخامسة عشرة لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP15) في كوبنهاغن غير كافية إلى حد يرثى له.
والأكثر من ذلك أن ما يُخصص اليوم لأغراض الصلابة والتكيف لا يتجاوز 7% من تمويل العمل المناخي، رغم أن التقديرات الواردة في تقرير اللجنة العالمية المعنية بالتكيف مع تغير المناخ لعام 2019 تشير إلى أن استثمار 1,8 تريليون دولار في مبادرات مثل نظم الإنذار المبكر والممارسات الذكية مناخياً على مدار 10 سنوات يمكن أن يدر منافع يبلغ مجموعها 7,1 تريليون دولار.
ومما زاد الأمور تعقيدا أن جائحة كوفيد-19 والغزو الروسي لأوكرانيا أديا إلى ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وتشديد الأوضاع المالية. وأدت هذه العوامل إلى زيادة أعباء المالية العامة على اقتصادات الأسواق الصاعدة وكانت بمثابة اختبار لمدى الصلابة الاجتماعية-الاقتصادية والبيئية في الوقت الذي ترتفع فيه درجات الحرارة بمعدلات غير مسبوقة. وأسفرت هذه الأحداث المتعاقبة عن استنزاف الأموال والموارد من مشروعات الاستدامة وتسببت في انكماش حاد في رؤوس الأموال يهدد بتراجع الاتجاهات التي شهدتها عقود من المكاسب الإنمائية التي تحققت بشق الأنفس. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن تغير المناخ يمكن أن يهدد تقدم التنمية عن طريق دفع 132 مليون نسمة إلى هوة الفقر بحلول عام 2030، وخاصة أولئك الذين يعيشون في إفريقيا وجنوب آسيا.
إن تكلفة تنفيذ جدول أعمال المناخ – في التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من آثاره - تتجاوز بكثير الموارد المتاحة. ومن الواضح أن هناك حاجة إلى مجمع أكبر من الأموال. ويقال إنه إذا خصصت بنوك التنمية متعددة الأطراف جميع أموالها للتحول الأخضر، فستصل إلى حوالي 4% من التمويل المطلوب (World Bank 2020). ومع ذلك فإن تحويل من 1% إلى 1,5% فقط من أصول القطاع الخاص على مستوى العالم – التي تتجاوز قيمتها 450 تريليون دولار – من شأنه أن يسد فجوة تمويل العمل المناخي (FSB 2021). وتستطيع المؤسسات الخيرية أيضا تقديم يد المساعدة. ففي السنوات الأخيرة، شهدت أموال المؤسسات الخيرية التي تستهدف العمل المناخي نموا سريعا. وفي عام 2020، تراوح التمويل المخصص للتخفيف من آثار تغير المناخ بين 6 مليارات دولار و10 مليارات دولار وهو ما يمثل، لوضع الأمور في نصابها، أقل من 2% من تمويل كافة المؤسسات الخيرية في جميع أنحاء العالم.
وهذه الحاجة الملحة للأموال استحثت دعوة دولية لقيام البنيان المالي العالمي المعاد هيكلته بتكثيف العمل المناخي وجذب استثمارات القطاع الخاص للبلدان الأشد احتياجا لها. ومن أكثر المبادرات طموحا مبادرة بريدجتاون* وإطار كفاية رأس المال في مجموعة العشرين.
وقد كانت الاستفادة من الفرص المالية وأوجه التضافر بين العمل المناخي والتنمية المستدامة بمثابة القوة الدافعة "لدليل شرم الشيخ للتمويل العادل*"، الذي أصدرته مصر في ضوء رئاستها للدورة السابعة والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP27). والهدف من الدليل هو مساعدة الأطراف المعنية على الانتقال على نحو أكثر كفاءة من التعهدات إلى التنفيذ من خلال تحديد المؤسسات الرئيسية، بما في ذلك مقدمو رأس المال المناخي، وتوضيح الفرص والمخاطر والشراكات المحتملة من أجل مستقبل يتسم بالصلابة في مواجهة تغير المناخ.
وقد استحدث الدليل أول تعريف لمفهوم "التمويل العادل" الذي يتجاوز مفهومي العدالة المناخية والتحول العادل. وهذه المبادرة تضع الناس في المقام الأول، حيث تركز على التوزيع العادل للمنافع والأعباء، وتؤكد على حماية البعد الاجتماعي للتحول إلى مستقبل يتسم بالصلابة في مواجهة تغير المناخ. وباختصار، تحاول المبادرة تفعيل مبدأ "المسؤوليات المشتركة وإن كانت متباينة ومراعاة قدرات كل طرف" من خلال مناقشة مفاهيم شعور البلدان بالملكية، والحصول على الفرص، والقدرة على تحمل التكاليف، والتحيز في توزيع الموارد. وهي تعزز أيضا مفهوم "الإضافية" – أي المنافع التي لا تُعزى إلا إلى التدخل – والحوكمة الرشيدة. وإلى جانب المبادئ الإرشادية الاثني عشر المقابلة، فإن التمويل العادل "يراعي المسؤولية التاريخية عن التغيرات المناخية مع ضمان الحصول العادل نوعا وكما على تمويل العمل المناخي بما يدعم صلابة مسارات التنمية، دون أن يُترك أحد وراء الركب".
ويتطلب تسريع التحول إلى مستقبل منخفض الكربون ويتسم بالصلابة في مواجهة تغير المناخ اتخاذ إجراء جماعي ووجود شراكات قوية بين الأطراف المعنية المتعددة. وهذا يعني إطلاق الأموال من الجهات المالية العامة والخاصة والخيرية وتعزيز تمويل العمل المناخي في الاقتصادات النامية واقتصادات الأسواق الصاعدة. وتكمن المشكلة في تصنيف 77% من المراتب الائتمانية السيادية للاقتصادات النامية في "المرتبة غير الاستثمارية"، والتي ترتبط بالتالي بالمخاطر المرتفعة. وهناك أيضا فجوات كبيرة في المعلومات المتعلقة بالفرص، وإقبال المستثمرين، وتأثير الاستثمار.
ويمثل سد فجوة المعلومات أهمية بالغة للحكومات والمستثمرين وقد يلقي، بدوره، الضوء على أنماط المخاطرة والعائد، وخفض تكاليف المعاملات، وتمكين آليات التمويل الجديدة، والمساعدة في إنشاء مشروعات بالغة التأثير وقابلة للاستثمار تتوافق مع اتفاق باريس وتساهم في تنفيذ أولويات البلدان.
وتعطي مصر مثالا على الانتقال من السياسة إلى التطبيق من خلال إطلاق "المنصة الوطنية للربط بين قطاعات المياه والغذاء والطاقة" (برنامج نُوَفِّـــي) أثناء الدورة السابعة والعشرين لمؤتمر الأطراف (COP27) للتأكيد على شعور البلد بالملكية واعتماد منهج من أسفل إلى أعلى قائم على البرامج بقيادة الدولة. ويتضمن برنامج "نُوَفِّـــي" (التي تعني باللغة العربية "الوفاء بالتعهدات") الحلقة المفقودة في المشروعات القابلة للاستثمار، كما يساهم في سد فجوة المعلومات. ويعمل كذلك على تنسيق الجهود لضمان التفاعل المستدام والمثمر بين الأطراف المعنية. فمن خلال تصميم وهيكلة وإعداد مشروعات التخفيف والتكيف المحددة والقابلة للتنفيذ، تمكن برنامج "نُوَفِّـــي" من تعبئة التمويل الميسر وتحفيز الاستثمار الخاص. وقد استفاد البرنامج من أدوات التمويل المبتكرة، بما في ذلك التمويل المختلط ومبادلات الدين من أجل العمل المناخي (Al-Mashat and Berglöf 2023).
وفي الفترة التي تسبق الدورة الثامنة والعشرين لمؤتمر الأطراف (COP28) في الإمارات العربية المتحدة التي تُعقد في وقت لاحق من هذا العام، من المهم حصر التجارب الناجحة وتعزيز تبادل المعلومات. ويتضمن دليل شرم الشيخ للتمويل العادل خطة لعمل البلدان معا على التصدي للتحديات المرتبطة بالمناخ وتحفيز التمويل من أجل مستقبلنا منخفض الكربون.
* باللغة الإنجليزية
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.