يستعرض وزير المالية الأردني، الدكتور محمد العسعس، نجاح الأردن في تنفيذ سياسات مالية وقائية للحفاظ على الاستقرار الكلي بعدالة اجتماعية رغم التحديات.
عند تعييني وزيراً للمالية في تشرين الثاني 2019 اعتقدت أن أكبر تحدٍ أمامنا هو النجاح في إقرار الموازنة العامة من مجلس الأمة (ولم يكن هذا الأمر هيناً). في ذلك الوقت كانت العلاقة التي تربطنا مع صندوق النقد الدولي تفتقر إلى مقومات النجاح والثقة، وذلك في ظل عدم تمكننا من المضي قدما في تطبيق برنامج " تسهيل الصندوق المُمَدَّد"، وكنا نعتقد آنذاك أن هذا آخر التحديات التي علينا مواجهتها.
غير أننا لم ندرك ما يخبئه القدر في جعبته من مفاجآت، فبحلول شهر آذار لسنة 2020، تمكنا من إقرار قانون الموازنة العامة ، وتمّ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج جديد في ظل "تسهيل الصندوق المُمدّد" يقوم على مجموعة مختلفة تماماً من القواعد والمرتكزات والتي وضعت بأيدٍ اردنية، حيث كان من أبرز مخرجاته توسيع القاعدة الضريبية بعدالة بدلاً من زيادة المعدلات الضريبية، بالإضافة الى الالتزام بقواعد الانضباط في خفض العجز الأولي ولكن دون المساس بشبكات الأمان الاجتماعي او التأثير سلبًا على معدلات النمو. ولم يعتقد الكثير أننا قادرون على النجاح عند بداية هذا المشوار الاصلاحي، لا بل انخفض عدد من آمن بقدرتنا على النجاح في ضوء ما مرّ به الأردن والعالم أجمع من تحديات متعاقبة تمثلت في جائحة كوفيد-19 والأزمة الروسية الأوكرانية والركود التضخمي العالمي.
إلا أننا اليوم وبعد المُضي قدما في هذه الإصلاحات تمكنَّا من انتزاع نجاحنا وبجدارة بالحفاظ على الاستقرار الكلي المالي والنقدي وبشهادة جميع وكالات التصنيف الرئيسية. وعلاوة على ذلك، حقق إصدار الأردن لسندات "يوروبوند" في شهر نيسان 2023 نسبة اكتتاب فاقت الحجم المطلوب بستة أضعاف. ورغم أنه لا يزال أمامنا شوط طويل نقطعه لتحقيق طموحنا، إلا انه حُق لنا أن نقف اليوم ونلقي نظرة شاملة على السبل والأسباب التي أوصلتنا لما نحن عليــه الآن من تحقيق استقرارٍ كليٍ في الاردن.
كم تجادلت أثناء مهنتي الأكاديمية حول مسارات المالية العامة وأطر الاصلاح الهيكلي التي يقترحها صندوق النقد الدولي، إلا أن ادارة المخاطر المالية من مقعدي كصانع سياسات لا تنطلق من المعادلات الرياضية المثالية ولا النماذج الاقتصادية النظرية؛ وإنما ترتكز على الاقتصاد السياسي المتمثل في بناء توافقٍ اجتماعي حول الإصلاحات الاقتصادية والمالية على نحو متسقٍ مع ظروف كل بلد بعينه. وسوف أقوم هنا باستعراض أبرز المساعي المبذولة من أجل تحقيق ذلك، ومن ثم سوف أقيم ما أبرزته هذه التجربة من اختلالات تشوب المؤسسات الماليــة الدولية وما يمكن عمله لتقويمها.
استعــادة زخـــم الإصلاحـــات
تمثلت الخطوة الأولى في رحلة الاصلاح المالي في التوقف عن الاعتماد على وصفات علاجية صممت خارج الاردن، حيث قمنا ببناء تقييم يعتمد على التحاليل والأدلة الاقتصادية كما عايشناها على أرض الواقع بين عامي 2018 و2019. وبعد التعمق في بحث أسباب التحديات المالية التي واجهناها تمّ وضع إصلاحات هيكلية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي بشكل يعكس العدالة الاجتماعية. فقد تسببت الصدمات التي شهدها الإقليم في رفع مستويات العجز والمديونية في الأردن، وقد بلغ حجم هذه الصدمات 44% من إجمالي الناتج المحلي الأردني. وكان لتلك الصدمات أثر سلبي كبير على أوضاع المالية العامة، وشملت هذه الصدمات إغلاق حدود الأردن نتيجة الصراعات الدائرة في دول الجوار، وقطع إمدادات الطاقة، وتدفق اللاجئين السوريين الذين أصبحوا يشكلون 20% من تعداد سكان الأردن. إلا أنه بعد التوقف عن اتخاذ اجراءات وتدابير مرحلية لحل القضايا المُلحة، استطاع الأردن أن يُحدد نقطة الالتقاء الجوهرية بين التوسع التصاعدي العادل للقاعدة الضريبية، واعتماد إصلاحات محفزة للنمو ومعاكسة للدورة الاقتصادية، وتوسيع تغطية شبكات الأمان الاجتماعي المُوجهة لمن يستحقها، وإدارة خدمة الدين بحصافة. وتمكننا بفضل هذا المسار الجديد الذي وضع بأيدٍ أردنية مستندة الى الأدلة الرقمية من بناء المصداقية مع صندوق النقد الدولي وإعادة النظر في مدى فعالية النهج الذي اعتمدنا عليه طويلاً في المراحل السابقة والذي تمثل في فرض ضرائب استهلاكية غير مباشرة، وتخفيض الدعم على من يستحق، وتقليص الإنفاق الرأسمالي في وقت التباطؤ الاقتصادي.
ويمثل نهجنا هذا منظومة إصلاح شاملة وجدية وطموحة إلا أنها قابلة للتحقيق لتوافقها مع خصوصية الظرف الأردني وواقعه الاجتماعي والسياسي. فعلى صعيد الإيرادات، قمنا بمكافحة التهرب والتجنب الضريبي بدلا من رفع الُمعدلات الضريبية (بل قمنا بخفض معدلات ضريبة المبيعات على السلع الأساسية في موازنة عام 2020 كمؤشرعلى تغيير النهج الاقتصادي، ثم قمنا بتخفيض التعرفة الجمركية وتوحيدها في عام 2022). وقمنا برفع كفاءة تحصيل الإيرادات وعدالتها الاجتماعية، كما قمنا بسد ثغرات التهرب والتجنب الضريبي من خلال إصلاحات تشريعية جذرية مثل إصدار نظام الأسعار التحويلية، وتوحيد الإدارة الضريبية في كافة أنحاء الأردن ومكافحة التهرب الضريبي، وتوحيد العبء الضريبي للحدّ من فرص استغلال التفاوت بين الفئات المختلفة. أما على صعيد النفقات، فقد تمّ تعزيز آلية الاستهداف للوصول إلى الأسر الأكثر حاجة مع توسيع نطاق شبكات الأمان الاجتماعي، واتخاذ بعض الإجراءات الهادفة الى سداد المتأخــرات والحد من تراكمها، ورفع الإنفاق الرأسمالي لأول مرة منذ سنوات.
أما الخطوة الثانية فقد تمثلت في إعادة بناء جسور الثقة من خلال تحقيق النتائج المستهدفة. وقد بدأت استراتيجية رفع زخم الايرادات تؤتي ثمارها: ففي عام 2022، تمكنت المملكة الأردنية الهاشمية من تحقيق مُستهدفات ضريبة الدخل للعام كله بحلول شهر آب، وارتفعت الإيرادات المحلية للربع الأول من عام 2023 بنسبة 9.1% مقارنةً بالسنة السابقة، مدفوعة بشكل رئيسي بضريبة الدخل والأرباح. وقد فاق مستوى تراجع العجز الأولي خلال عام 2022 المستوى المستهدف من قبل برنامج صندوق النقد الدولي بسبب سياسة الانضباط المالي، وذلك بفضل ارتفاع إيراداتنا المحلية إلى مستويات أعلى من المستهدفة وبشكل تصاعدي. ولا يمكننا الادعاء هنا أننا قد نجحنا في تنفيذ الخطة بشكلٍ مثالي، إلا أننا بدلا من رفع مستويات الضريبة على المواطن العادي حرصنا على أن يتحمل من هو قادر على دفع الضريبة نصيبه العادل منها. وعليه، فقد نجحنا في تحقيق الإيرادات المستهدفة وبالتالي حافظنا على الاستقرار الاجتماعي بسبب ابتعادنا عن رفع النسب الضريبية. ويمثل هذا نجاحا للسياسات المالية التي تعتمد على العدالة الاجتماعية في تحقيقها لمستهدفاتها. وبالتالي شكل ذلك ترابطًا بين فعالية السياسة المالية وعدالتها الاجتماعية.
وقد تمثلت الخطوة الثالثة في التحلي بالمرونة والتركيز على الهدف الأشمل. ويبقى هدفنا الأساسي في وزارة المالية الحفاظ على الاستقرار المالي الكلي، الا أنه من المهم أن نأخذ دائما بعين الاعتبار السياق والأوضاع المتغيرة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان برنامجنا مع صندوق النقد الدولي أحد أول البرامج التي احتوت على معامِلٍ لتعديل المستهدفات مراعيةٍ بذلك التغيرات الناشئة بسبب جائحة كورونا، مما ساهم في نجاح الأردن في تحقيق مستهدفات برنامجه قبل الموعد المقــرر في حزيران 2023.
ولا بد من الإشارة هنا الى أن نجاحنا في الحفاظ على الاستقرار الكلي المالي لا تعني بالضرورة تحقيق الازدهار لمواطنينا، فما زال الأردن يواجه تحدياتٍ مختلفة. فعلى سبيل المثال، أدت زيادة أسعار الفائدة العالمية الى الحد من النتائج الإيجابية المرجوة. فقد توجهت الإيرادات الاضافية التي نجحنا في تحقيقها بسبب نجاح سياسات محاربة التهرب الضريبي إلى سداد ارتفاع خدمة الدين العام بدلا من تحسين مستوى الخدمات العامة. وفي اعتقادي أن المسؤولية تقع على عاتق صندوق النقد الدولي في مواصلة دوره الريادي في مواءمة النظام المالي مع المتغيرات العالمية. وفيما يلي بعض المقترحات لتحقيق ذلك.
وضع شروط مرجعية لصندوق النقد الدولي
لقد نشأت المؤسسات المالية الدولية على أنقاض الحرب العالمية الثانية. وبالتالي فإن فرضياتها الأساسية ليست استباقية لمنع حدوث الأزمات، بل هي قائمة على التعامل مع آثار تلك الأزمات. حيث إن هذه المؤسسات لا تقوم غالبا بتوفير الموارد لأي بلد إلا بعد حدوث الصدمات، مما يؤدي إلى التعامل مع الظروف الطارئة بعجاله ودون تحليلٍ كافٍ بدلًا من اتخاذ التدابير الهيكلية التي تعزز من قدرة البلد على التعامل بمناعةٍ مع الصدمات المحتملة. فمثلًا تقوم الحكومات بمد يد العون بعد تخلخل فئات الطبقة الوسطى ووقوعها في براثن الفقر بدلا من تعزيز قدرتها على تلافي ذلك. والأسواق النامية بحاجة إلى أدوات تسمح لها بالتعامل مع المخاطر بشكل استباقي، وهو أمرٌ أكثر فعالية وأقل تكلفة من التعامل معها بعد وقوعها.
أولا، ينبغي أن يقوم صندوق النقد الدولي باستحداث أدوات وقائية ضمن مجموعة أدواته. وتشير التجربة الأردنية الى ما يمكن تحقيقه من نتائج إيجابية إذا ما تم تشجيع الدول على ممارسة هذا الأسلوب على نطاق أوسع. ففي بداية الجائحة، وبناءً على توجيهات جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، استطعنا أن نتجنب صدمتي العرض والطلب في إمدادات الغذاء خلال فترة ما بعد الجائحة والتي تعرضت لها معظم البلدان عبر الاستثمار في تحسين مرافق تخزين القمح وزيادة هوامش الأمن الغذائي الوقائية لتغطي ثمانية عشر شهرا من احتياجاتنا من مادة القمح. ونتيجة لذلك، استطعنا تجنب بعض العواقب الوخيمة للحرب الروسية الأوكرانية وغيرها من عواقب تقلبات أسعار الغذاء العالمية. وبالإضافة إلى ذلك، أضفنا معامل تعديل ضمن برنامجنا مع صندوق الدولي لمراعاة النفقات الصحية غير المتوقعة للتعامل مع الجائحة، فمثلا استطعنا أن نوسع نطاق الإنفاق على اللقاحات والعلاجات لفيروس كورونا. وينبغي أن يعمل الصندوق على أن تتضمن برامجه مثل هذه المعامِلات التعديلية بصفة دائمة.
ثانيا، إذا كانت المؤسسات المالية الدولية تساند الاستمرار في نهج العولمة، فلا بد لها من توفير هوامش الأمان الوقائية لمواجهة التحديات التي تنشأ بسبب العولمة. وليس بوسعنا افتراض أن النظام العالمي غير المتكافئ سينجح في توزيع آثار التداعيات السلبية وتكاليف الصراعات المباشرة وغير المباشرة بالتساوي على البلدان؛ ولذا علينا أن نسعى للتوصل إلى حلول عالمية للتعامل مع هذه الأزمات، وهو ما ذكرتنا به السيدة كريستالينا غورغييفا، مدير عام صندوق النقد الدولي، بقولها "إن الحرب في أوكرانيا تعني المجاعة في إفريقيا". ومع ذلك فإن الموارد لا يتم توفيرها على النحــو الذي يحقق التوازن بين الحاجة إليها ومدى إتاحتها.
ثالثا، أن تحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي شرط أساسي لتحقيق الاستقرار على المستوى الجزئي للأسرة، إلا أن ذلك وحده غير كافٍ لضمان تحقيق هذا الازدهار. فينبغي للحكومات أن تنتهج سياسة لضمان توفير هوامش أمان وقائية لحماية الطبقات الوسطى من الوقوع في براثن الفقر بدلا من التركيز فقط على توسيع شبكات الأمان الاجتماعي في أعقاب وقوع تلك الأسر في أزمة الفقر. فعلى سبيل المثال سيؤدي تزايد أسعار الفائدة على القروض العقارية الى ارتفاع الأعباء على الأسر. وهو ما ينبغي للحكومات أن تتدخل لمعالجته قبل أن نشهد حالات إعسار في السداد على مستوى واسع النطاق.
رابعا، ينبغي أن تكون المؤسسات المالية الدولية هي ذاكرة العالم المؤسسية الاقتصادية غير المُتحيزة سياسيا. فمع تغير الحكومات، لا بد أن تستمر هذه المؤسسات في تذكير المجتمع الدولي بالتحديات الملحة التي لم يتم التعامل معها بنجاحٍ بعد، قبل البدء في تحويل مواردها إلى أزمات جديدة. وعليه، لا ينبغي للمجتمع الدولي أن يترك الأردن ليتعامل مع قضية اللاجئين السوريين بمفرده بمجرد أن انتقلت العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام إلى قضايا أخرى. وعليه فقد عوقب الأردن بتحميله وحده التبعات المالية الباهظة الثمن لقيامه بدورٍ إنساني في إدارة هذا الملف بالنيابة عن المجتمع الدولي.
وأخيرا ينبغي لصندوق النقد الدولي أن يساعد الدول على أن تضع برامجها الإصلاحية بأيديها، مثلما فعل الأردن. فان السياسات المالية التصاعدية ذات العدالة الاجتماعية، عندما استطعنا تنفيذها، قد نجحت بالفعل. إن هذا ليس كلاما نظريا أو أيديولوجيا. إن السياسات الأكثر عدالة اجتماعيا والتي تحقق المصلحة الوطنية لا المصلحة الفردية أثبتت أنها السياسات المالية الأكثر نجاعة أيضا.
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.