النفقات الحتمية من جراء الجائحة والحرب تواجه ارتفاعا في الديون وقيودا مشددة على الموازنات.
ما إن لاح بصيص من الأمل مع زيادة توفير اللقاحات، حتى جاء غزو روسيا لأوكرانيا فأحدث اضطرابا في تعافي الاقتصاد العالمي. وكان من أكثر الآثار العالمية وضوحا تسارع الارتفاع في أسعار الطاقة والمواد الغذائية، والذي أثار المخاوف من حدوث نوبات من شُح الغذاء، وتزايد مخاطر سوء التغذية والقلاقل الاجتماعية. وارتفعت الأسعار العالمية للمواد الغذائية بنسبة 33,6% في شهر مارس مقارنة بالعام السابق، حسب مصادر منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.
ويناقش عددنا الأخير من تقرير الراصد المالي كيف يمكن للحكومات، التي تواجه مستويات قياسية من الديون وارتفاعا في تكاليف الاقتراض، أن تتخذ الطريق الأمثل لتلبية الاحتياجات الملحة، كما يدعو بشدة إلى مزيد من التعاون الدولي.
آفاق المالية العامة محفوفة بقدر كبير من عدم اليقين
تراكمت في الاقتصادات حول العالم طبقة تلو أخرى من تركات الصدمات السابقة منذ الأزمة المالية العالمية. وأدت الإجراءات المالية الاستثنائية التي اتُخِذَت في مواجهة الجائحة إلى صعود معدلات عجز المالية العامة والدين العام في 2020.
وعلاوة على ذلك، ظلت الآفاق مُحاطة بأجواء عدم اليقين بينما كان العالم يخوض غمار بيئة غير مسبوقة، سادها ارتفاع التضخم وزيادة التباعد بين مسارات التعافي – ثم جاء غزو روسيا لأوكرانيا، فدفع المخاطر الجغرافية–السياسية نحو الارتفاع بصورة حادة.
ورغم هبوط معدلات العجز والديون العالمية من مستويات قياسية، لا تزال المخاطر المحيطة بالآفاق عالية إلى درجة استثنائية ومواطن التعرض للمخاطر آخذة في التصاعد. ويُتوقع هبوط الدين العام العالمي في عام 2022 ثم استقراره عند نحو 95% من إجمالي الناتج المحلي على المدى المتوسط، أي بارتفاع قدره 11 نقطة مئوية مما كان عليه قبل الجائحة. وساعدت ارتفاعات معدلات التضخم المفاجئة الكبيرة في 2020–2021 على تخفيض نسب الدين، ولكن تكاليف الاقتراض السيادي سترتفع مع تشديد السياسة النقدية لكبح التضخم، مما يُضَيِّق النطاق المتاح للإنفاق الحكومي ويزيد مواطن الانكشاف لمخاطر الديون.
وفي الاقتصادات المتقدمة، يُتوقع تراجع معدلات العجز بينما يتحول مسار السياسات من دعم الجائحة إلى التحول الهيكلي. وتواجه آفاق المالية العامة في أوروبا أجواء استثنائية من عدم اليقين نظرا للحرب في أوكرانيا وتداعياتها. وسوف تضيق معدلات العجز في معظم الِأسواق الصاعدة، ولكن مع تفاوتات كبيرة عبر البلدان. والبلدان منخفضة الدخل، التي تعاني من ندوب بسبب الجائحة، لديها حيز مالي محدود للغاية نتيجة للأضرار الشديدة التي أصابتها من جراء تداعيات الحرب.
وجلبت الصدمات المختلفة كذلك مخاطر جديدة على الموارد العامة. فالحكومات تتعرض لضغوط إزاء التعامل مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. ولتخفيف العبء عن الأسر، وضمان تحقيق الأمن الغذائي، والحيلولة دون إثارة قلاقل اجتماعية، أعلنت معظم الحكومات اتخاذ تدابير للحد من ارتفاع الأسعار المحلية. ومع هذا، يمكن أن تترتب على هذه الإجراءات تكاليف كبيرة تتحملها المالية العامة وتفضي إلى تفاقم عدم الاتساق بين العرض والطلب في العالم، وتفرض مزيدا من الضغوط على الأسعار الدولية وربما أدت إلى نقص في الطاقة أو الغذاء. وسيزيد ذلك من الأضرار التي لحقت بالبلدان منخفضة الدخل التي تعتمد على استيراد الطاقة والغذاء.
وفوق ذلك كله، مُني الكفاح ضد التضخم بانتكاسة، ولا سيما في بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان منخفضة الدخل. ومقارنة بالاتجاهات العامة التي كانت سائدة قبل الجائحة، وُجِد أن أزمة كوفيد-19 دفعت 70 مليون نسمة أخرى في أنحاء العالم إلى هوة الفقر المدقع في 2021. وتمتعت الأسر في كثير من الاقتصادات المتقدمة بالحماية من خلال الدعم الحكومي المباشر أو برامج الحفاظ على الوظائف. وانخفضت نفقات الأسر وارتفعت مدخراتها بسبب التباعد الاجتماعي، والقيود على الحركة، وعدم اليقين بشأن المستقبل. وتمثل هذه المدخرات الزائدة هامشا وقائيا مهما ولكن إنفاقها بسرعة يمكن أن يزيد من زخم التضخم. وتعيش البلدان الأخرى التي لديها أعداد كبيرة من الفقراء وضعا أسوأ بكثير – لأن التضخم المتزايد يمكن أن يؤدي إلى دفع أعداد أكبر من سكانها نحو الفقر ويفضي إلى تفاقم أزمة الغذاء.
إدارة أزمة فوق أزمة
تواجه الحكومات اختيارات صعبة في هذه البيئة التي تكتنفها درجة كبيرة من عدم اليقين. وينبغي أن تركز على أكثر احتياجات الإنفاق إلحاحا وعلى تعبئة الإيرادات لأدائها.
ونوصي بوضع استراتيجيات مالية تتمتع بالمرونة وسرعة الاستجابة يتم تصميمها تبعا لظروف كل بلد على حدة.
· في الاقتصادات الأشد تضررا من الحرب في أوكرانيا والعقوبات على روسيا، يتعين أن تتحرك سياسة المالية العامة لمواجهة الأزمة الإنسانية والتصدي للاضطرابات الاقتصادية. ونظرا لارتفاع التضخم وأسعار الفائدة، ينبغي توجيه الدعم من المالية العامة نحو الفئات الأشد تضررا والمجالات ذات الأولوية.
· في البلدان التي تحقق نموا أقوى ولا تزال الضغوط التضخمية فيها كبيرة، ينبغي أن تواصل سياسة المالية العامة الابتعاد عن الدعم والعودة إلى الأوضاع العادية.
· في عدد كبير من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات منخفضة الدخل التي تواجه ضيق أوضاع التمويل أو مخاطر الوقوع في حالة مديونية حرجة، يتعين على الحكومات ترتيب أولويات الإنفاق وتعبئة الإيرادات للحد من مواطن التعرض للمخاطر.
· البلدان المصدرة للسلع الأولية التي تنتفع من ارتفاع الأسعار ينبغي أن تغتنم الفرصة لإعادة بناء هوامشها الوقائية.
وينبغي للحكومات أن تعطي الأولوية لحماية أضعف الفئات في ظل تحركاتها لمواجهة طفرة الأسعار الدولية للسلع الأولية. ويتمثل أحد الأهداف الحيوية لذلك في تجنب حدوث أزمة غذاء مع الحفاظ على التماسك الاجتماعي. وفي استطاعة البلدان التي لديها شبكات أمان اجتماعي متطورة بشكل جيد أن تقدم التحويلات النقدية المؤقتة والموجهة إلى الفئات الضعيفة مع السماح بتعديل الأسعار المحلية. وسوف يحد ذلك من الضغوط على الموازنات ويولد الحوافز الصحيحة لزيادة الإمدادات (مثل الاستثمار في الطاقة المتجددة). ويمكن أن تسمح بلدان أخرى بتعديل الأسعار المحلية بوتيرة أكثر تدرجا وأن تستخدم الأدوات الموجودة لمساعدة أكثر الفئات المعرضة للمخاطر خلال هذه الأزمة، بينما تتخذ الخطوات اللازمة لتعزيز شبكات الأمان.
أما زيادة ارتفاع أسعار الوقود الأحفوري فتلقي الضوء على الحاجة الملحة إلى تعجيل التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة مما سيعزز أمن إمدادات الطاقة ويساعد على تنفيذ جدول الأعمال العاجل بشأن المناخ – فنحن بعيدون بشكل كبير عن مسار الإبقاء على الاحترار العالمي في حدود درجتين مئويتين.
وحوالي 60% من البلدان منخفضة الدخل إما يواجه مخاطر كبيرة من الوصول إلى حالة المديونية الحرجة، أو وصل لهذه الحالة بالفعل. وتواجه هذه البلدان ندوبا دائمة من كوفيد-19، كما أنها معرضة بصفة خاصة لمخاطر ارتفاع أسعار الغذاء، نظرا لارتفاع حصة الإنفاق على المواد الغذائية في ميزانيات الأسر المعيشية فيها. وبالتالي فهذه البلدان في حاجة إلى دعم المجتمع الدولي.
ولكن هناك حاجة أكبر إلى اتخاذ إجراء جماعي. وبات التعاون العالمي ضرورة حتمية لمعالجة المشكلات الملحة والعاجلة التي تواجه العالم: أزمات الطاقة والغذاء، والجوائح في الحاضر والمستقبل، والديون، والتنمية، وتغير المناخ.
*****
جون-مارك فورنييه اقتصادي في قسم سياسة المالية العامة والرقابة في إدارة شؤون المالية العامة بصندوق النقد الدولي. وخلال عمله في الصندوق، أعد نموذجا لتقييم الموقف المالي وأسدى مشورة بشأن المالية العامة إلى مجموعة من البلدان، ومنها بلجيكا وكوت ديفوار وفرنسا والهند واليابان والمكسيك والولايات المتحدة. وكان يعمل في السابق خبيرا اقتصاديا في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، وأستاذا غير متفرغ في الاقتصاد القياسي وخبيرا اقتصاديا في إدارة التنبؤات قصيرة المدى في المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا (Insee). وقد ألف مطبوعات علمية عن سياسة المالية العامة وعدم المساواة في توزيع الدخل والاقتصاد الكلي والأزمة المالية والاقتصاد القياسي. والسيد فورنييه حاصل على درجة البكالوريوس من Ecole Polytechnique ومن Ecole Nationale de la Statistique et de l’Administration Economique.
فيتور غاسبار من مواطني البرتغال، ويعمل مديرا لإدارة شؤون المالية العامة بصندوق النقد الدولي. وقبل انضمامه إلى الصندوق، تقلد العديد من المناصب الرفيعة المتعلقة بالسياسات الاقتصادية في البنك المركزي البرتغالي، بما في ذلك منصبه الأخير كمستشار خاص. وسبق للسيد غاسبار أن تقلد منصب وزير دولة ووزير للشؤون المالية في البرتغال في الفترة 2011-2013، وكان رئيسا لمكتب مستشاري السياسات الأوروبية التابع للمفوضية الأوروبية في الفترة 2007-2010 ومديرا عاما للبحوث في البنك المركزي الأوروبي من 1998 إلى 2004. والسيد غاسبار حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد بالإضافة إلى دبلومة لاحقة للدكتوراه من جامعة Universidade Nova de Lisboa؛ كما دَرَس في جامعة Universidade Católica Portuguesa البرتغالية.
باولو ميداس هو رئيس قسم في إدارة شؤون المالية العامة بالصندوق ويشرف على تقرير "الراصد المالي" الذي يصدره الصندوق. وقد تقلد من قبل مناصب متعددة بالصندوق في كل من الإدارة الأوروبية وإدارة نصف الكرة الغربي. وكان ممثلا مقيما للصندوق في البرازيل في الفترة 2008-2011، كما قاد بعثات لبناء القدرات في عدة بلدان. وتتضمن مجالات أبحاثه قواعد المالية العامة، والحوكمة والفساد، وأزمات المالية العامة، وإدارة الموارد الطبيعية.
روبرتو أسيولي بيريللي هو اقتصادي أول في قسم سياسة المالية العامة والرقابة بإدارة شؤون المالية العامة بالصندوق، حيث يشارك أيضا في العمل المتعلق بتقرير "الراصد المالي". وكان قبل ذلك عضوا في فِرَق الصندوق المكلفة بمتابعة اقتصادات البرازيل واليونان وأيرلندا وجنوب إفريقيا وغيرها، كما قاد العمل بشأن تمرين الثغرات الأمنية في نظم تَعَلُّم الآلة في ظل الأزمات الخارجية. وأثناء فترة عمله، بنى السيد روبرتو خبرة متخصصة في مجموعة واسعة من قضايا السياسات، بما في ذلك إعادة هيكلة الدين السيادي، والضبط المالي، وأزمات ميزان المدفوعات. وهو يحمل درجة الماجستير في الإحصاء والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة إلينوي في أوربانا-شامبين بالولايات المتحدة.